"أزمة العرب ومعنى التخلف" (5)

أ. د. كامل صالح أبو جابر*

للدول مصالح تعمل من وحي الحفاظ عليها. وهي في سبيل ذلك، لا تستحي ولا تخجل، ولا تشفق على الجار ولا على الضعيف. هذه كانت وما تزال القاعدة الرئيسة للتعامل بين الدول على مر التاريخ، بالرغم من إبداء حسن النوايا، أو ما يشابهه من شعارات إنسانية أو غير ذلك، من قبل هذه الدولة أو تلك. ويصاحب هذه القاعدة في التعامل بين الدول، أن الغلبة كانت دوما للقوة، وأن القوي هو من يكتب التاريخ، ويضع القواعد لقانون التعامل بين الدول والشعوب، فيما على الضعيف أن يتكيف مع هذه الأوضاع.اضافة اعلان
وتزداد أهمية القواعد سالفة الذكر، كلما ازدادت أهمية المنطقة مدار البحث، مهما تعددت الأسباب الكامنة خلف هذه الأهمية؛ هل هي لأسباب استراتيجية، كاحتوائها على وسائل المواصلات البحرية والأرضية وحتى الجوية بين القارات، كما هي حال منطقتنا، أم لاحتوائها على غزارة في الموارد المائية أو المعادن أو النفظ، أو غير ذلك. وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار قاعدة أن الطبيعة لا تقبل الفراغ (Vacuum)، فلا بد من قوة كامنة في المنطقة لحمايتها، وإلا سيقوم آخرون بملء هذا الفراغ لما فيه مصلحتهم لا مصلحة أهل المنطقة، فإنه يتبين لنا بعض أسباب معاناة منطقة المشرق العربي، ولاسيما منطقة الهلال الخصيب، على مدى التاريخ وإلى اليوم.
في العام 1987، عقدت كلية الاقتصاد في جامعة بغداد، بالتعاون مع الجمعية العربية للعلوم السياسية، ندوة حول مستقبل العالم العربي، قدمتُ فيها بحثا بعنوان "المشرق العربي: نظرة استراتيجية". وقد استعرضت في البحث إضاءات على المجرى التاريخي للعلاقات العربية مع دول الجوار ومع العالم الغربي. وأشرت وقتها إلى أن لكل من دول الجوار وشعوبها؛ ايران وتركيا والأكراد، خططها وتطلعاتها وآراءها فيما يتعلق بالسيادة على المنطقة وإدارتها، وأن للعالم الغربي الأقرب جغرافيا للمنطقة بعد ذلك، آراءه وخططه كذلك. وأشرت إلى جهود العالم الغربي، وبموافقة ضمنية أو ظاهرة من بعض شعوب المنطقة غير العربية، للتمهيد لاقتحام دولة إسرائيل لها، وإضافة شعب آخر لشعوبها الرئيسة وأقلياتها.
في ذلك البحث، أكدت على ضرورة تضافر جهود الدول والشعوب العربية لخلق وتأسيس قوة عربية تملأ الفراغ، وتعمل على حماية المنطقة، وإلا ستصل حال العرب إلى ما وصلت إليه اليوم فعلاً؛ من شرذمة وضعف. فالعراق اليوم ليس العراق الذي كنت أعرفه قبل عقد من الزمن. وكذلك الحال بشأن سورية وفلسطين واليمن ولبنان، وحتى مصر. ويبقى السؤال قائما: كيف انقلب الهلال الخصيب الذي كنت أعرفه سابقا، إلى الهلال "الغضيب" التي هي حاله اليوم؟ ومن المسؤول عن ذلك؟
في الكتب والمجلدات التي تُدرّس كمراجع معتمدة في الجامعات الغربية تحديدا، والمتعلقة بتاريخ العلاقات الدولية، تعداد للمصالح الأساسية لهذه الدولة أو تلك من دول الغرب في المنطقة العربية. ويأتي على رأس هذا التعداد عادة رغبة الغرب في أمن واستقرار المنطقة، والحفاظ على "العلاقات الجيدة" مع أهلها ودولها. وهو أمر مغاير حقا لوقائع التاريخ وأحداث المنطقة على مدى العصر الحديث.
منذ عصر النهضة الأوروبية؛ عصر الاكتشافات والتوسع الغربي الذي مهد له التفاف الغرب البحري حول المنطقة العربية، وكذا كسر الاحتكار العربي للممرات البرية للتجارة بين الشرق والغرب، وأوروبا في صعود فيما منطقتنا في حال آخر من الانزلاق، بما مهد لاختراقها وتمدد الاستعمار الذي تمكن فيما بعد من السيطره على الممرات البرية في عقود القرن العشرين وما تلاه. وللحفاظ على هذه المصالح، لا بد من التذكير بوثيقة "هنري كامبل-بانرمان"، التي أكدت على ضرورة زرع جسد غريب في المنطقة، يفصل مغربها عن مشرقها. وما يفسر السياسة الغربية، الظاهرة والخفية، إبقاء المنطقة في حال من عدم الاستقرار المنضبط (Controlled Instability)، هو خدمة المصالح الغربية.
ليس التأكيد على أولوية إسرائيل على سلم المصالح الغربية في المنطقة، بغرض جلد الذات؛ وإنما هو للتأكيد على ضرورة التعامل مع هذا الأمر بأقصى درجات الحذر والحيطة، والابتعاد عن الارتجال وردود الفعل التي أوصلت العرب إلى ما هم عليه اليوم. ومن الضروري التذكير بالأساطيل الغربية التي تحيط بالمنطقة، لا في البحر الأبيض المتوسط فحسب، بل وفي البحر الأحمر وباب المندب وبحر العرب والخليج العربي.
ومن البدهي كذلك ضرورة التذكير بأن العلاقة الحميمة ما بين إسرائيل والغرب اليوم بقيادة أميركا، لم تعد، بعد عقد الثمانينيات من القرن الماضي، علاقة طفيلية يتغذى فيها مخلوق مستقل كعصفور على مخلوق آخر مستقل كالجاموسة؛ بل أصبحت علاقة عضوية يستحيل فيها التعرف على جزء الجسد الذي يتسبب في تحريك أجزاء أخرى منه. هذه العلاقة الحميمة رسختها ووطدتها فئات المحافظين الجدد المتصهينة في الولايات المتحدة، والتي تعتقد أن مثل هذا الدعم اللامتناهي للصهيونية، سيعمل على استعجال عودة السيد المسيح المرتقبة بعد معركة "أرمغيدون" (Armageddon). فلا بد لنا من التحسب لعمق هذه العلاقة، وإمكانية تعاظمها على مدى المستقبل؛ وأن الصراع لم يعد مجرد صراع على أرض فلسطين، بل تعداه ليصبح صراع الوجود العربي الذي تعمل الصهيونية على اختزاله، بحيث يصير العرب مجرد أقلية أخرى من فئات المنطقة، فتفقد هذه الأخيرة روحها العربية وعروبتها، وكذا تسهل السيطرة عليها، واستبدال قيمها بقيم أخرى.

*وزير سابق