الأحلام الصينية .. والحقائق الروسية

مايكل ماكفول؛ وكاثرين ستونر– (موسكو تايمز) 23/1/2020
ترجمة: علاء الدين أبو زينة

اضافة اعلان

بعض المستبدين يقومون بتنمية اقتصاداتهم، وثمة مستبدون آخرون يدمرون اقتصاداتهم. مقابل كل صين، هناك كوريا شمالية. ولكل سنغافورة، هناك زيمبابوي.
بعد عشرين عاماً له في السلطة، كان أداء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أفضل من روبرت موغابي في زيمبابوي، لكنه لم ينجز أي شيء يقترب من ما فعله دنغ شياو بينغ في الصين أو لي كوان يو في سنغافورة. وبينما يقترح بوتين الآن تغييرات مؤسسية لإبقاء نفسه في السلطة لفترة أطول، فإن الأكثر تفاؤلاً فقط هم الذين يفترضون أن السنوات العشر المقبلة (أو العشرين؟) من الديكتاتورية الروسية ستعمل بأي شكل أفضل من السنوات العشرين الماضية.
يمكن أن لا يكون الروس أكثر حرية مع مزيد من الديمقراطية فقط، وإنما أكثر ثراء.
عندما اختار بوريس يلتسين بوتين أول الأمر ليكون رئيسًا جديدًا في العام 2000، وهو قرار صادق عليه لاحقاً الناخبون الروس، كان بوتين حاكماً ومحظوظا وجاء عرَضاً على حد سواء.
في البداية، كانت لدى يلتسين ودائرته الداخلية خطة مختلفة للخلافة. في العام 1997، جمَّع يلتسين حكومة ليبرالية جديدة مؤيدة للديمقراطية، وعين أول نائب لرئيس الوزراء فيها، بوريس نمتسوف، لكي يخلفه في العام 2000. ومع ذلك، في السنة التالية، تسببت أزمة مالية عالمية في نشوب أزمة اقتصادية كبيرة في روسيا، مما أجبر يلتسين على طرد نمتسوف وآخرين في تلك الحكومة، وتعيين إيفغيني بريماكوف ذي الميول الشيوعية رئيسا للوزراء في العام 1998.
بحلول خريف العام 1999، ومع اقتراب الانتخابات البرلمانية والرئاسية التي كانت على بُعد بضعة أشهر فقط، كان على يلتسين إحداث هزة في الأوضاع حتى يحول دون وصول بريماكوف وحلفائه (بمن فيهم رئيس بلدية موسكو، يوري لوزكوف إلى سدة السلطة.
كان هذا هو السبب الذي جعل يلتسين يستخرج بوتين من المجهول -ضابط مخابرات شاب موالٍ، والذي صادف فقط أنه أصبح رئيسًا للوزراء، في وقت كان يُزعم فيه أن الشيشان قاموا بشن عدة هجمات إرهابية في قلب روسيا (يتكهن البعض بأن هذه المصادفة لتزامن الأحداث كانت أكثر من مجرد ضربة حظ).
تولى رئيس الوزراء، فلاديمير بوتين، زمام المبادرة في الرد على هذه الهجمات الإرهابية عن طريق شن حرب ثانية في الشيشان، مما أدى إلى تأجيج العاطفة الوطنية والتحشيد حولها في المجتمع الروسي، وهو ما يحدث عادة في معظم البلدان التي تذهب إلى الحرب.
كانت ضربة حظ بوتين الثانية هي أن يصبح رئيسًا تماماً في اللحظة التي بدأ فيها الاقتصاد الروسي بالنمو، مدفوعاً في المقام الأول بارتفاع أسعار النفط والغاز. وقد تشكلت سمعة بوتين كقائد قوي وناجح إلى حد كبير بهذين الحدثين -حرب الشيشان والنمو السنوي بنسبة 7 في المائة لعدة سنوات. واستفاد بوتين من شعبيته للتخلص من الضوابط والقيود على سلطته التنفيذية.
خلق تزامن النمو الاقتصادي الجديد وتصاعد الاستبداد في روسيا في أواخر العقد الأول من الألفية الانطباع الخاطئ بأن يداً قوية في الكرملين ودولة روسية قوية هما اللتان كانتا مسؤولتين عن التنمية الاقتصادية. وكان ذلك تعالُقاً زائفاً.
كان النمو الروسي خلال هذه الفترة مثيراً للإعجاب، لكنه تخلف في واقع الأمر عن معظم بلدان ما بعد الشيوعية الأخرى التي لم تكن تتمتع بمنافع زيادة عائدات النفط لتغذية اقتصاداتها. كان الروس يقومون بعمل جيد، ولكن كان من الممكن أن يقوموا بعمل أفضل بكثير.
بدت فترتا بوتين في السلطة، مقارنة بالتسعينيات، مستقرتين ومزدهرتين. لكن هذه هي المقارنة خاطئة. فقياساً إلى كان يمكن أن ينتجه الاقتصاد الروسي في هذه الفترة الزمنية نفسها في ظل نظام حكم أكثر انفتاحاً وخضوعاً للمساءلة، أدى نظام حكم بوتين إلى تباطؤ النمو، وعزز دولة النهب، ووسع الفساد.
بعد فترة توقف أثناء فترة ميدفيديف، أنتجت عودة بوتين إلى الكرملين في العام 2012 نظاماً أكثر استبداداً ولم يعقُبها المزيد من الازدهار لمعظم الروس. وبحلول نهاية العام 2019، أصبح لدى روسيا أعلى مستوى من عدم المساواة في الثروة في العالم.
كانت شريحة لا تني تزداد صغراً من السكان تمتلك نسبة دائمة الارتفاع من اقتصاد البلد. ووفقاً لقاعدة بيانات مؤشر "عدم المساواة العالمي"، فإن 1 في المائة من سكان روسيا يمتلكون 43 في المائة من ثروتها، في حين أن 50 في المائة من السكان الذين في القاع لديهم نسبة ضئيلة من الثروة لا تتجاوز 3.5 في المائة.
تصاعد ترتيب روسيا على مؤشرات مثل مدركات الفساد، ولم يتحسن بعد 20 سنة من حكم بوتين. وعلى سبيل المثال، تحتل روسيا الآن المرتبة 138 من بين 180 دولة على مؤشر مدركات الشفافية الدولية للفساد، وهو انخفاض كبير عن المرتبة 60 التي احتلتها في العام 2000 عندما أصبح بوتين رئيساً.
أدى الافتقار إلى تحقيق تحسن كبير في سيادة القانون إلى خنق محرك التنمية الاقتصادية، وإنشاء مؤسسات صغيرة ومتوسطة الحجم، وقمع الاستثمار والابتكار، لا سيما في قطاع التكنولوجيا الفائقة في روسيا.
كما أدت الأعمال الحربية المغامرة التي قام بها بوتين في الخارج -ضم شبه جزيرة القرم والحرب في شرق أوكرانيا في العام 2014، والتدخل في الانتخابات الرئاسية الأميركية في العام 2016، ومحاولة اغتيال سيرجي سكريبال في المملكة المتحدة في العام 2018- إلى عزلة دولية لروسيا وفرض عقوبات اقتصادية جديدة عليها والمزيد من عرقلة التنمية الاقتصادية. وابتداء من الربع الثالث من العام 2014، تقلص الاقتصاد الروسي على مدى تسعة أرباع. وقد أظهر العام 2019 إشارات على الانتعاش الاقتصادي، لكن النمو الإيجابي في السنوات الفاصلة والاستثمارات المفقودة ضاعت كلها إلى الأبد.
مقارنة بالعام 2014، تبدو الاتجاهات الاقتصادية الروسية في العام الماضي جيدة. ولكن، كيف كانت الاتجاهات الاقتصادية في العام 2019 لتبدو من دون غزو أوكرانيا وما نجم عنه من عقوبات؟ من دون عشرين سنة من الاستبداد؟ تلك هي الحقائق المضادة التي تستحق الدراسة والتأمل.
في خطابه عن حالة الأمة قبل نحو أسبوعين، بدا أن بوتين يعترف بالتحديات التنموية التي فشل في معالجتها بعد عقدين قضاهما في السلطة. فإذا لم يتمكن من حل هذه التحديات بعد عشرين عامًا من سيطرته، فلماذا قد يعتقد أحد بأنه سيكون أكثر نجاحاً في العقد أو العقدين القادمين؟
لا يبدو شباب روسيا مقتنعين. وقد أشار استطلاع منتظم للرأي أجراه مركز ليفادا في نهاية العام 2019 إلى أن نسبة قياسية هي 53 في المائة من الروس الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و24 سنة يعتزمون العيش في الخارج بشكل دائم، في أعلى ارتفاع لهذا الاتجاه في 10 سنوات.
الآن، باقتراح مزيج معقد من التغييرات الدستورية والسياسية، يسعى بوتين إلى كسب مزيد من الوقت في السلطة. والمستبدون يرتكبون الأخطاء، خاصة بعد 20 عاماً في العمل. وربما تؤدي بعض تغييراته المقترحة، والتي سيتم تبنيها من دون مقاومة، إلى نتائج إيجابية غير مقصودة من حيث جلب قدر أكبر من التعددية، بل وحتى تحقيق الديمقراطية في المدى الطويل.
في جميع أنحاء العالم على مدى العقود العديدة الماضية، عادة ما أنتج منح المزيد من السلطة للبرلمان حكومات أكثر خضوعاً للمساءلة مقارنة بالأنظمة الرئاسية. ويمكن أن تؤدي إصلاحات بوتين المقترحة في النهاية إلى مزيد من التدقيق والضوابط على السلطة التنفيذية. لكن النتيجة قصيرة الأجل واضحة: المزيد من البوتينية.
كان الإصلاح المؤسسي الأكثر غموضاً الذي اقترحه بوتين قبل نحو أسبوعين هو تعزيز صلاحيات مجلس الدولة. وقد تكهن العديد من المعلقين بأن هذه الخطوة تهدف إلى خلق منصب لبوتين مماثل لذلك الذي شغله لي كوان يو –الرجل الذي وُصف بأنه أوتوقراطي خيري، والذي أشرف على تطوير سنغافورة إلى أكثر دول العالم ازدهاراً في جنوب شرق آسيا، وجعلها من بين الدول الأقل فسادًا في العالم.
بعد استقالته من منصبه كرئيس للوزراء في العام 1990، أحكم لي كوان قبضته على بلده من خلال تعيين نفسه الدائم في مجلس الوزراء كوزير أول، ثم الوزير الراعي –وهي مناصب تم إنشاؤها له خصيصاً وشغلها حتى وفاته في العام 2015. وفي الصين، لم يترأس دنغ شياو بينغ الدولة أو الحزب رسمياً، لكنه لعب دوراً مماثلًا كزعيم فعلي خلال عقود من النمو الاقتصادي الرائع في الصين.
بعد 20 عاماً قضاها حتى الآن في السلطة، أثبت بوتين بوضوح أنه ليس لي كوان يو أو دنغ شياو بينغ. ومن المؤكد أن الروس أصبحوا اليوم أكثر ثراءً مما كانوا عليه في أي فترة من تاريخهم الممتد لألف عام. كما تحسنت حياة الروس بشكل كبير فيما يتعلق بالتدابير غير النقدية كما تقيسها مختلف المؤشرات.
فبعد تراجع رهيب في متوسط العمر المتوقع، وخاصة بين الرجال، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ارتفعت أعداد الرجال والنساء على حد سواء بثبات منذ العام 2009 ووصلت الآن إلى أعلى مستوياتها على الإطلاق.
لكن إرث السيد بوتين على مدى 20 عامًا، المتمثل في الاستبداد الذي ازداد رسوخاً بشكل تدريجي، لا يرقى بأي حال إلى النمو الاقتصادي المطرد وكفاءة الحكومة اللذين تحققا في سنغافورة، وهو الإرث الذي كان لي كوان يو يستطيع أن يفخر بأنه تركه لدى وفاته في العام 2015، أو إلى عقود من النمو مزدوج الرقم في الصين في عهد دنغ.
بدلاً من ذلك، أدى إنشاء بوتين لنظام رأسمالية المحسوبية التي تستفيد منها القلة على حساب الكثرة إلى إعاقه بلده وتركه في الخلف، ولم تنتج عنه قفزة تنموية كبيرة إلى الأمام لروسيا. وفي الحقيقة، حدثت تغييرات إيجابية في البيئة الاقتصادية لروسيا على الرغم من حكم بوتين الطويل، وليس بسببه.
سوف تؤدي المزيد من سنوات حكم بوتين، مهما تم تشكيلها مؤسسيًا، إلى المزيد من خنق التنمية الاقتصادية، وليس تسريعها.

*مايكل أ. ماكفول: مدير معهد فريمان سبوغلي للدراسات الدولية بجامعة ستانفورد. أحدث مؤلفاته كتاب بعنوان "من الحرب الباردة إلى السلام الساخن: سفير أميركي في روسيا بوتين".
*كاثرين ستونر: كبيرة زملاء ونائبة مدير معهد فريمان سبوغلي. كتابها القادم هو "إحياء روسيا: قوتها وغايتها في نظام عالمي جديد"، (مطبعة جامعة أكسفورد، 2020).
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Chinese Dreams, Russian Realities