الإرهاب بين الاستثمار وخسارة المعركة الفكرية

تضعنا المجزرة البشعة التي أريقت فيها دماء أكثر من 300 مواطن مصري خلال صلاة الجمعة الماضية في صحراء سيناء مرة أخرى في مواجهة الحائط.. وتفتح بوجهنا جميعا سؤال هذا الحجم من الكراهية والتطرف الدموي والأعمى الذي يستحلّ باسم ديننا الحنيف دماء البشر من كل ملّة ودين وطائفة.اضافة اعلان
وكما هي العادة، فما أن تذهب صدمة الترويع والاشمئزاز الإنساني من هكذا جرائم يندى لها جبين الإنسانية، حتى نضيع بمتاهات التحليل والبحث عن التفسيرات، ودون أن يتورّع البعض، وأتحدث هنا عن سياسيين وعمّن يسمون أنفسهم رجال دين، بالبحث عن تبريرات وملابسات وتهويمات سياسية وفكرية لنوازع المجرم وشروط الواقع السياسي والاجتماعي لمكان الجريمة، في آلية نفسية وفكرية وسياسية تحاول من حيث تدري أو لا تدري التبرير لما جرى، والتخفيف من هول الصدمة والمأساة المفتوحة!
ثمة نسق عام وخريطة واحدة جامعة للعمل الإرهابي الذي يتمسّح باسم ديننا الإسلامي الحنيف، سواء وقعت هذه الجريمة في سورية أو العراق أو الأردن أو السعودية أو ألمانيا أو فرنسا أو نيجيريا، وسواء استهدفت الجريمة مسلمين سنة أو شيعة أو مسيحيين أو يزيديين أو من أية ملة أو طائفة أو دين. ومن غير الدقيق إعطاء بعض العوامل والشروط السياسية والاجتماعية والاقتصادية في هذه الحالة أو تلك أكثر من حجمها، أو اعتبارها عاملا جوهريا لوقوع الفعل الإرهابي.
في الحالة الأوروبية والغربية كان البعض يعطي لعامل التهميش والإقصاء للجاليات العربية والإسلامية دورا جوهريا بتفسير الأعمال الإرهابية التي وقعت، فيما أعطي لبعد العداء مع إيران وتدخلها في غير بلد عربي ما هو أكبر من حجمه في تفسير استهداف الجماعات الإرهابية، وغالبيتها سنية، للشيعة، بينما لم يتورع البعض في إحالة التوسع بالعمليات الإرهابية في مصر وغيرها من دول إلى حالة الحريات السياسية ومواقف الأنظمة السياسية بهذه الدول، وغيرها من تفسيرات وإحالات تبريرية تظهر كلما وقع حادث إرهابي في بقعة من العالم.
وعلى أهمية العوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية بتفسير التطرف، فإن العامل الجوهري بتفسير هذا الشره للدم والإرهاب واستباحة أرواح الآخرين هو العامل الفكري والتأصيل النظري للتطرف، المستند إلى مدارس تراثية وفكرية دينية منغلقة ومتحجرة توقفت آليات تجديدها وتطويرها عند زمن غارق بماضيه السحيق، قبل أن تعود إلى الانبثاق وتسيّد المشهد الفكري والثقافي العربي الإسلامي بلحظة تواطؤ بين حركات سلفية أصولية متطرفة من جهة، وبين أنظمة عربية غارقة بالفساد والدكتاتورية والتخلف بالتحالف مع المعسكر الغربي في صراعه الوجودي مع المعسكر الشيوعي بحربهما الباردة من جهة أخرى، ما أفلت هذا الوحش من قمقمه ليفيض بشروره ودمويته على الجميع.
واستكمالا لدائرة الشر هذه، عادوا مع انطلاق رياح "الربيع العربي" للاستثمار بالإرهاب والتطرف لتصفية الحسابات السياسية والإقليمية، تحديدا في العراق وسورية وليبيا، في أسوأ مقامرة عالمية وإقليمية دفعت وتدفع شعوب المنطقة والعالم اليوم ضريبتها الدموية الباهظة. 
وعلى أهمية الأبعاد الأمنية والعسكرية والسياسية لمكافحة الإرهاب والتطرف، وضرورة عدم المهادنة باستئصال هذا الشر، فإن المعركة الفكرية ستبقى الأساس بمثل هذه المواجهة إن أريد أن تكون منتجة وفاعلة.
وربما المشكلة الأساس هنا هي في عدم وضع المعركة الفكرية والحضارية بمواجهة التطرف وجماعاته على رأس قائمة الأولويات، ليس فقط من قبل الحكومات، بل وحتى من قبل القوى السياسية والفكرية الإسلامية المنفتحة والواعية. وقد يكون أفضل تعبير عن ذلك ما صرح به مفتي الديار التونسية الشيخ عثمان بطيخ أول من أمس بدعوته المسلمين إلى "الجهاد ضد التعصب في العالم الإسلامي"، وذلك ردا على مجزرة مسجد سيناء. 
في هذا السياق أيضا، فإن المعركة الفكرية والثقافية ضد الإرهاب والتطرف لن تستقيم إلا بميثاق وموقف دولي حقيقي وحازم يمنع ويجرم الاستثمار والمقامرة بدعم الإرهاب وجماعاته تحت أية ذريعة أو أجندة، وفي أي صراع سياسي حول العالم.