الإصلاح من حيث بدأنا

لا أعتقد أن أحداً في الأردن يناقش ضرورة الإصلاح، والبدء به فوراً، والواقع أننا في “حالة إصلاح” منذ عقود، تشتد وتيرته -كما كانت أيام الربيع العربي- وتهدأ مرةً أخرى -كما صارت بعد مرور “عاصفة” الربيع العربي-، ورغم الاختلاف على مفهوم الإصلاح وشكله وأبعاده، وغياب خطة واضحة تفصيلية له، إلا أن “ضرورة الإصلاح” هي الشيء الوحيد الذي يجمع عليه الأردنيون في الموالاة والمعارضة، فلا أحد معجب بأداء الحكومات ولا البرلمان، والواقع يؤشر على وضع اقتصادي صعب زادت فيه كورونا الطين بلة؛ حيث كشفت أكثر ما كشفت عن ضعف شديد في مجال التفكير الإستراتيجي، وأيضاً في مجال الأداء التنفيذي الحازم للحكومات.اضافة اعلان
أمام هذا الواقع يقوم السؤال الأهم وهو لماذا لم ننجح في الإصلاح؟ وهذا السؤال في تصوري محوري ليس الهدف منه هنا التأشير على الخطأ بقدر ما هو الوقوف على أسباب الفشل لتجاوزها.
إذا اعتبرنا أن أول توجه إصلاحي كان العام 1989، فإن الهدف السياسي للإصلاح آنذاك كان تجاوز أزمة أكثر منه بحثاً جدياً عميقاً في الإصلاح أو طرح أسئلة حقيقية حول شكل الدولة والحكم، ورغم الإجراءات التصحيحية في مجال قانون الانتخاب وعودة الديمقراطية أو لنقل وقف الأحكام العرفية، إلا أن الدولة لم تكن جادةً في مراجعة نفسها في مجال الاقتصاد والاجتماع، وفي إعادة تقييم خدمات مهمة للقطاع العام مثل الصحة والتعليم، خاصةً وقد وضعت وثيقةً سياسيةً تاريخيةً في مجال الإصلاح هي الميثاق الوطني الذي مثل تجديداً وتطويراً للعقد الاجتماعي وإحياء لقيم الدستور. لقد فهمت الدولة آنذاك أنها كسبت الجولة لأنها أعادت الناس من الشارع، واستمرت بعدها ريعيةً في الاقتصاد تأخذ دورها السياسي من الخارج أكثر منها من الداخل. وقد ساعدها طفرة اقتصادية أجلت مشروع الناس في الإصلاح، وتركت الإصلاح كمطلب نخبوي منبت عن امتداداته الشعبية خاصةً في ظل حالة تغييب وغياب للأحزاب البرامجية.
عام الربيع العربي، ورغم وجود رؤى ملكية للإصلاح تمثلت بالأوراق النقاشية، فإن الدولة تعاملت أيضاً معه باعتباره “أزمة” يجب تجاوزها، ولم تر فيه أي فرصة لإعادة التفكير الحقيقي بمسار الدولة الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، فكلما طرح الإصلاح نهجم على قانون الانتخاب، وهذا في ظاهره صحيح، لكنه يبدو شكلياً تخديرياً إذا لم يشمل مراجعة الدولة لعقلها السياسي، وإعادة تقييم الواقع في ضوء متغيراته السياسية الداخلية والخارجية، فلا يجوز الاستمرار بالتعامل مع الأردن كأنه الأردن نفسه سياسياً وعسكرياً واقتصادياً كمان كان في الخمسينيات!
وأهم أسباب عدم نجاح الإصلاح أن التفكير فيه متقادم، ينتمي لمرحلة ومفهوم ورؤى عن الأردن وعن واقعه الاقتصادي والسياسي متقادمة، تحتاج في ذاتها لمراجعة وتجديد في المفاهيم والأفكار، فالأردن اليوم سياسياً وعسكرياً وشعبياً غير الأردن قبل 89 وغيره قبل الربيع العربي، وهو مستمر في التغير في ظل فضاء التواصل الاجتماعي والرقمي، وبما يستدعي التجديد في أدوات الإصلاح ومفاهيمه عنها في الماضي لإنتاج حلول ملائمة للواقع.
لا أميل لربط الإصلاح وضرورته بما حصل مؤخراً، ولا أعتقد أن اللجوء إلى الإصلاح تحت وطأة التهديد والترويج بتهديد الدولة والمؤسسات عمل سياسي رزين، فردود الأفعال لا تصنع الأوطان، والإصلاح بطبيعته عمل واع استراتيجي يخالف منطق الفزعة أو الأزمة، ويتطلب عقلاً بارداً في المراجعة والتقييم ورسم الخطط والتنفيذ الحازم الجازم المرتبط بخطط زمنية واضحة، الإصلاح كعلاج للانهيار تفكير مهزوم في ذاته، أما الإصلاح باعتباره مواكبة للواقع المتغير فهو تفكير إيجابي، يحفز الجميع للتوافق على شكل الإصلاح ومداه وأبعاده الداخلية والخارجية.
جلالة الملك، منذ زمن، وضع تصوره مكتوباً في أوراقه النقاشية، التي حظيت بإجماع شعبي كبير وصل إلى المطالبة بأن يفرض ذلك التصور، وتلك الرؤى والأفكار فرضاً، ولكن تلك الرؤى لم تحظ بما تستحقه من تبنّ من الدولة على الأرض، ولهذا وقبل التفكير في إنشاء لجنة وطنية جديدة للحوار، أعتقد أن الدولة يجب أن تجتمع مع نفسها في مكاشفة وطنية لأهدافها وفهمها للإصلاح، وأن تراجع أدواتها في التعامل مع مطلب الإصلاح وضرورته الحالة القائمة المستمرة، وبعد ذلك وعلى أرضية من فهم شفاف وطني لمفهوم الدولة للإصلاح وأبعاده، يكون لتشكيل لجان وطنية للإصلاح معنى تكاملي صادق في السر والعلن، اللهم قد بلغت جنابك!!