التطرف بما هو نبل يتحول إلى فساد

يبدو أصعب ما في مواجهة التطرف أنه يبدأ برواية منشئة نبيلة ومفيدة بل وضرورية، لكن يتطور التجمع في تفاعله مع الأفكار والمصالح في سلسلة من التطرفات، ولذلك فإن مواجهة التطرف تعتمد أيضا على سلسلة من الروايات المنشئة التي يجب أن ترافق الجماعات المختلفة في عملها وتأسيسها، مثل احترام الفردية والتماس الاختلاف والتنوع والتفكير النقدي والحرّ، وعدم معاقبة أو عزل المختلفين عن الأغلبية، ويقصد بالجماعة هنا أي فريق عمل جماعي مثل الأحزاب والنقابات والمجالس والتجمعات المختلفة. وليس ثمة إجابة أخرى مقترحة للسؤال البديهي كيف نضمن ألا تتحول الجماعات إلى التطرف؟ كيف نضمن ألا يتكرر التطرف بعد أن ننجح في مواجهته؟ فالجماعات في سلوكها المغلق واستقطابها للأكثر تطرفا تدفع المعتدلين إلى الخروج، وعندما يتحرك أعضاء في الجماعة في اتجاه العنف يحدث فرز اختياري، ولا يبقى في الجماعة إلا الأكثر تطرفا والأقوى انتماء إليها، ويرى هؤلاء أنفسهم أفضل وأصدق من غيرهم. وبطبيعة الحال يؤدي خروج المعتدلين والعقلاء بالجماعة إلى مزيد من التماسك والتشابه .. والتطرف أيضا. وهكذا تتشكل حلقة دائرية شريرة، فتظل الجماعة تنتقل من تطرف إلى تطرف أشد، ويمكن على سبيل المثال ملاحظة كيف تطرفت جماعات الإسلام السياسي وظلت تنتقل من تطرف إلى تطرف أشد، وكيف تكون الجماعات الجديدة أشد قسوة ويأسا. وبطبيعة الحال يجب أن نتوقع أن تتجه الجماعات إلى تطرف متزايد كلما خرج منها أعضاء معتدلون.اضافة اعلان
وأجدني منحازا لمثال يذكره سينشتاين (كتاب الطريق إلى التطرف)  مستشهدا بمقولة البرت هيرشمان إذا كان الخروج من الجماعة متاحا بلا قيد فقد يخرج الأفراد منها ولا يبقى إلا الموالون أو المخلصون وسيكون أعضاء الجماعة أكثر تطرفا، كما أن النقاش سوف يتسبب في إحداث نقلات متطرفة، وأما صعوبة الخروج من الجماعة فسيحافظ عليها كبيرة، وتظل محتفظة بالمعتدلين الذين يميلون إلى ضبط المتطرفين وكبحهم.
وأما المثال فهو التنافس بين المدارس الخاصة والمدارس الحكومية (والمثال لـ البرت هيرشمان)
 فلو أن المدارس الحكومية تدهورت أو انهارت فإن الأفراد يفضلون الخروج منها إلى المدارس الخاصة، وستفرض هذه النتيجة ضغطا صوب تحسين المدارس الحكومية، لكنها سوف تتسبب في ما هو أهم من ذلك وهو فقدان المدارس الحكومية لهؤلاء الأعضاء الدائمين الذين من شأنهم أن يكونوا أشد إلحاحا وعزما على خوض معركة إصلاح المدارس الحكومية ووقف تدهورها لو لم يتوفر لهم البديل المتمثل في المدارس الخاصة.
والمثال يصلح للقياس بذكاء وفهم كيف يتشكل التطرف في اتجاهات ومصالح وعلائق معقدة لدرجة يعود صعبا تفكيك الحكاية المنشئة للظاهرة، فالضعف والتراجع في مؤسسة أو جماعة سواء في أدائها وفي قيمها ينشئ جماعات ومؤسسات بديلة، وتنشأ هنا مصالح معقدة، إذ يتحول الضعف والانهيار إلى مصلحة لجماعات وأفراد آخرين، كما أن وجود البدائل حتى لو كانت فاسدة أو أقل صلاحا فإنها تتكرس وتجعل الإصلاح أكثر صعوبة، ثم يتعرض الإصلاح إلى مواجهة مزدوجة من جهات شتى وغير متوقعة، فالقائمون على مؤسسات أو جماعات آيلة للسقوط يجدون مصلحة في ضعفها وتصفيتها، والبدلاء بطبيعة الحال يجدون مصلحة في ذلك، ثم تنشأ قيم تعزز هذا الواقع، ويفقد الإصلاح الحقيقي ثقة الناس، ويكتسب الفساد والتطرف قواعد اجتماعية متماسكة تحتضنه وتدعمه.