المأزق الأميركي في التعامل مع مصر

بيتر ماندافيل* - (فورين بوليسي) 26/6/2012

ترجمة: عبد الرحمن الحسيني

مع تربع رئيس مصري جديد على كرسي الحكم، يكون من المغري التركيز على الزخم المستقبلي للفترة الانتقالية للبلد، والعودة الوشيكة للحكم المدني. وفي الحقيقة، وخلال الكثير من العام الماضي، عولت واشنطن على فكرة أن المجلس العسكري الذي يحكم البلد منذ الإطاحة بالرئيس السابق مبارك يبدي رغبة في التنازل عن السلطة عاجلاً وليس آجلاً. لكن سوء إدارته لوقائع رئيسية من الفترة الانتقالية جرى التقليل من أهميته في الجزء الضخم منه، باعتباره ضرباً من العمل الأخرق الهاوي من جانب جنود غير معتادين على لجم السلطة التنفيذية. لكن الدراما التي أفضت إلى جولة الإعادة في الانتخابات الرئاسية قدمت العديد من الإمارات على أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية لن يذهب خلال أي وقت قريب، حتى رغم ادعائه بأن السلطة ستسلم إلى الرئيس الجديد مع نهاية حزيران (يونيو).اضافة اعلان
وطيلة الأسبوعين الماضيين، أشرف المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية على حل المؤسسة المنتخبة الشعبية الوحيدة، مجلس الشعب، وتبنى التفويض التشريعي بنفسه. كما فرض حدوداً كبيرة على صلاحيات الرئيس المنتخب حديثاً، وتولى صلاحيات أمنية جديدة من شأنها استعادة وقائع قانون الطوارئ الدراكوني الذي كان قد سمح لمبارك بقمع التعبيرات السياسية المعارضة طوال هذه المدة. أضف إلى هذا أن الملحق المكمل للانتقال السياسي، والذي يشير إلى أن الانتخابات التشريعية لن تعقد حتى تتم صياغة دستور جديد، يعني أن المصريين سيظلون من دون مؤسسة سياسية مستقلة ومنتخبة شعبياً خلال المستقبل المنظور.
وفي الأثناء، انتقد المشككون في المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية هذه الممارسات الأخيرة، واعتبروها معادلة لانقلاب عسكري. كما قللوا من شأن الخلافة الرئاسية على أساس أنها تشكل دخاناً ومرايا من جانب العسكريين: فقدوم تنفيذي مقرون مع الثورة يقدم السراب الموهم بإحراز تقدم إلى الأمام -بينما يبعد العيون المراقبة عن المجلس العسكري- حتى مع اتخاذ المجلس العسكري الأعلى للقوات المسلحة المصرية إجراءات تضمن، للوقت الحاضر على الأقل، أن تبقى السلطة المطلقة فيما يتعلق بأموال وأمن مصر في قبضته الصارمة. وفي أقل القليل، من الواضح أن الجنرالات -الذين يواجهون برلماناً ورئاسة يهيمن عليهما الإسلاميون- شعروا بالحاجة إلى إصدار بيان مؤداه أنهم سيبقون المسؤولين. لكن، وكما في ممارساتهم في منعطفات حساسة سابقة في العملية الانتقالية، بدا هذا البيان وأنه مبالغ فيه. وثمة أيضاً احتمال كبير بأن هذه التحركات ستشخص المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية باعتباره العدو المشترك للقوى السياسية التي نحت نحو التركيز على خلافاتهما حتى الآن.
وفي هذا المناخ، ستكون حركة الإخوان المسلمين والنهج السياسي الذي تختاره مفتاحين رئيسيين. وبينما يبقى العديد من ثوريي مصر -ناهيك عن لاعبين خارجيين مثل الولايات المتحدة وإسرائيل وحلفاء أميركا في الخليج- متشككين في النوازع المطلقة للإخوان المسلمين، فإن فوز محمد مرسي في انتخابات الإعادة الرئاسية أمام شخصية رئيسية من النظام السابق سيجدد مصداقيتها الثورية في أعين العديد من المصريين. لكنه يظل لدى الإسلاميين راهناً مأزقهم الخاص. ولأنهم تعرضوا للخداع من جهة المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية عبر خسارتهم لقاعدة قوتهم التشريعية واحتمال تربعهم على كامل السلطة التنفيذية، فإنهم يمتلكون فرصة غير مسبوقة لتجييش المشاعر الشعبية لتصب في صالح قضيتهم. لكن الإقدام على هذه الخطوة سيفضي حتماً إلى حدوث مواجهة مباشرة مع الجنرالات، كما أنه من غير الواضح ذلك البعد الذي ترغب معه جماعة الإخوان المسلمين بالدفع في هذا الاتجاه. ويبقى الجيش يحظى -كمؤسسة- بشعبية عريضة، فيما يدرك الإسلاميون أنهم سيحتاجون في نهاية اليوم إلى تكييف أنفسهم مع بيئة سياسية يحتفظ فيها العسكريون بقصب السبق المطلق في قضايا الأمن القومي لبعض الوقت.
في هذا الهياج المضطرب، تم إيلاء القليل من الاهتمام نسبياً في هذه الأيام إلى مصير العملية الدستورية في مصر. وبعد شهور من النقاش المحموم المقرون بالنشاط السياسي حول تشكيل وعملية تأسيس جمعية دستورية، تم التوصل إلى صفقة خاصة بعضوية الجمعية، والتي تجلس بموجبها مجموعة من البرلمانيين -يهيمن عليها الإسلاميون- إلى جانب غالبية من الخبراء المستقلين اسمياً، وشخصيات عامة من مختلف أطياف الحياة في مصر (رجال قانون ونقابات ومؤسسات دينية وأقليات... إلخ). وعلى السطح، بدا هذا الترتيب وأنه يضمن تنوعاً أكبر في صياغة الدستور، لكن التحركات الأخيرة من جانب المجلس العسكري الأعلى للقوات المسلحة المصرية تلقي ظلالاً من الشك على وحدة وسلامة العملية. ومع حل البرلمان، فإن ولاية نصف أعضاء هذا الجسم التأسيسي تظل غامضة في الوقت الراهن. وبالإضافة إلى ذلك، يوفر مرسوم جديد للمجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية ضمانة واسعة تتيح له التدخل في العملية الدستورية. كما أنه ينص، وبشكل غامض، على أنه إذا كان المجلس الحالي غير قادر على إتمام عمله، فإن المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية سيتولى تشكيل مجلس تأسيسي جديد يكون أمامه ثلاثة شهور ونصف الشهر لكتابة دستور جديد وعرضه لاحقاً على استفتاء شعبي. والتفسير بعين إيجابية، هو أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية يحاول ببساطة تركيز عقول أولئك الذين يحملون مسؤولية إعطاء مصر دستورها الجديد. ويرى الآخرون في ذلك تكتيكاً يستهدف حصول المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية على الدستور الذي يريده، بمجرد أن يعلن مجلس الشعب الراهن، بشكل محتم، فشله.
والشيء المحزن أن هذه النهايات تعد تدخلاً جائراً من جانب الجيش، وأنها ربما كانت غير ضرورية عندما يتعلق الأمر بضمان أهدافهم النهائية. وإذا كان المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية يريد بشكل رئيسي حماية الموازنة المصرية وحصته من الاقتصاد القومي ومزاياه الفريدة من نوعها في حقل الأمن القومي، كما يفترض منذ وقت طويل، فقد كان معظم اللاعبين الرئيسيين في مصر مستعدين أصلاً لاستيعاب هذه الأحكام. كما أن الولايات المتحدة أيضاً أومأت بأنها مرتاحة -وفي الحقيقة ربما تكون قد فضلت- هذا الترتيب، رغم العيوب الواضحة للديمقراطية في مصر. وعليه، فإن السؤال الآن هو ما إذا كانت اللعبة قد تغيرت بالنسبة للمجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية. هل هم يشيرون إلى أنهم يتطلعون راهناً إلى دور أكثر تخندقاً في السياسة المصرية، بما يذكر ربما بجيش تركيا حتى وقت قريب؟ وإذا كان الأمر كذلك، كيف يجب أن ترد الولايات المتحدة عليه؟
لقد تفاوتت السياسة الأميركية حيال مصر طيلة العام الماضي بين التعبير عن دعم الثورة والإصلاح الديمقراطي الدائم، وسلسلة من الأفعال التي أومأت إلى الكثيرين في المنطقة بأن الطرق القديمة من عمل الصفقات ما تزال قائمة. ولعل إقدام وزارة الخارجية الأميركية في وقت مبكر من العام الحالي على استخدام تنازل أمني قومي لتجنب إقرار شروط ديمقراطية فرضها الكونغرس نظير المساعدات العسكرية الأميركية، يقف ليكون أكثر الأمثلة جسارة على الثاني. ومن الممكن تلخيص المأزق بالنسبة للولايات المتحدة بشكل أكثر إيجازاً: فبينما وفرت الثورات الشعبية في المنطقة فضاءً جديداً للولايات المتحدة من أجل الدفع بشدة نحو الإصلاح الديمقراطي، نرى وجود عوائق رئيسية على جانبي العرض والطلب على حد سواء، مما يجعل هذه التطلعات مثبتة بقوة في الأرض.
أولاً وقبل أي شيء، يشير سجل الولايات المتحدة في الشرق الأوسط إلى أن معظم الناس في مصر يدركون أن هذا البلد ما يزال المكتتب الرئيس للنظام نفسه الذي تأنفه انتفاضتهم. وهذا يجعل من الصعب بالنسبة للولايات المتحدة أن ينظر إليها كصديق للثورة، ويؤكد أن الجهود الأميركية لدعم الانتقال الديمقراطي في مصر -من خلال عقد شراكات المنظمات غير الحكومية أو نشاطات تدريب الأحزاب السياسية- ينتهي بها المطاف إلى أن ينظر إليها على أنها تدخل غير مرغوب.
ويتحدث العامل الثاني هنا عن مشكلة أكثر أساسية مع السياسة الأميركية في الشرق الأوسط. فرغم طرح خطاب سياسي جديد عن دعم الانتقال الديمقراطي، عندما يلزم الأمر، تبدو الولايات المتحدة وأنها تستفيد من علاقاتها المستثمرة مع اللاعبين الأمنيين في الوضع الراهن حول طرق جديدة أصيلة في عمل الصفقات. وبأخذ هذه الأمور بعين الاعتبار، لا يكون من الصعب تخيل أن تشعر واشنطن بالراحة لاحتلال العسكريين المصريين مكانة مرموقة -كما يبدو الحال راهناً- وإبقاء عين يقظة على رئاسة -وفي نهاية المطاف، برلمان يسيطر عليه الإسلاميون.
لكن هذه التصرفات والمواقف لا تخدم فعلياً المصالح الاستراتيجية طويلة الأمد للولايات المتحدة. وقد أصابت وزيرة الخارجية الأميركية، هيلاري كلينتون، كبد الحقيقة عندما قالت: "إذا ظلت القوى السياسية الأكثر هيمنة في مصر مكاناً للمسؤولين غير المنتخبين، فسيكونون قد نثروا -مع مرور الوقت- بذور القلاقل المستقبلية، وسيفقد المصريون فرصة تاريخية". وعليه، ما الذي يجب على الولايات المتحدة عمله في هذا المنعطف بحد ذاته، وسط هذا النفوذ الضئيل الذي تتمتع به؟
تحتاج واشنطن لأن تظهر للمجلس العسكري الأعلى للقوات المسلحة المصرية أنه رغم إجرائه الانتخابات الرئاسية، فإن نهج عمله الحالي سيعيق انتقال مصر إلى الديمقراطية، ومن ثم استقرارها في نهاية المطاف. ويجب أن يتمتع المجلس بالشجاعة الكافية لعقد انتخابات عاجلاً لا آجلاً -أو في حال فشل الجمعية الدستورية الحالية، مع ضمان أن يعكس أي جسم جديد يصوغ الدستور الإرادة الشعبية عبر إجراء جيد نوعاً ما. وحتى في ظل غياب صلاحيات تشريعية واضحة، توفر البرلمانات المنتخبة والجمعيات التأسيسية منتديات حاسمة لبث وحل الخلافات السياسية. وتعد التجربة التونسية الأخيرة مثالاً يمكن النظر إليه في هذا المقام. وكلما سارعت القوى السياسية العنيدة في مصر في وضع تشخيص لكيفية عملها سوية، كان ذلك أفضل للبلد. وفي الأثناء، هناك حاجة إلى التنازل عن الصلاحيات الأمنية لحقبة مبارك.
ثانياً، تحتاج مساعداتنا التقنية والحاكمية إلى التركيز أقل على نشر المنظمات غير الحكومية وتدريب الأحزاب السياسية، وإلى التركيز أكثر على بناء الصلاحية في المؤسسات البيروقراطية والقضائية وفي مؤسسات تفعيل القانون -وأفضل طريقة هي أن تمضي حاكمية فعالة ومسؤولة ومستدامة قدما إلى الأمام. وسيكون تفعيل أدوات جديدة، مثل صندوق الحوافز الذي اقترحته الإدارة الأميركية للشرق الأوسط وشمال أفريقيا، جزءاً حاسماً من الوفاء بهذه الاحتياجات.
ولكن، كيف يمكن إنجاز ذلك عندما تبدو التهديدات باستخدام أفضل عصا لدى واشنطن -الحفاظ على التخصيص السنوي البالغ 1.3 بليون دولار لمصر- جوفاء أو غير مقنعة في القاهرة؟ وما تزال الفكرة القائلة إن مبلغ 1.3 بليون دولار هو النقطة الرئيسية للضغط في السياسة الأميركية أكثر قليلاً من سراب لعدة أعوام. لكنها جزء لا يتجزأ من إقامة علاقة عمل وثيقة، والتي تقدم لواشنطن وصولاً منتظماً ومباشراً وموثوقاً إلى القادة العسكريين الكبار في مصر. وعليه، فإن هذه المرحلة لا تحتاج، لا إلى تهديد ولا خطب ود، وإنما إلى استخدام منطق السياسة السليمة في إقناع المجلس العسكري الأعلى للقوات المسلحة المصرية بأنه من أفضل ما يخدم مصالح البلد، أن يقوم المجلس العسكري -كمؤسسة- بوضع مصر على سكة ونهج انتقال ديمقراطي أصيل ودائم.
*مدير مركز علي فورالاك للدراسات الإسلامية في جامعة جورج ماسون، وزميل رفيع غير مقيم في معهد بروكينغز. وهو أيضاً عضو سابق في هيئة موظفي السياسة في وزارة الخارجية الأميركية.
*نشرت هذه القراءة تحت عنوان: America’s Egypt quandary

[email protected]