الموسيقى الفلسطينية كأداة نضالية

انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي، مؤخراً، فيديو يعرض مشاركة فرقة الأطفال الغزيين "تخت شرقي" في برنامج المواهب العربي (Arabs Got Talent). وذكرتني مشاهدة أداء هؤلاء الأطفال المبدعين، بقصة الطفلة الغزية الصغيرة التي قُتلت عائلتها في القصف الأخير، ولم يستطع المشرفون النفسيون إلهاءها بالألعاب والملابس الجديدة عن البكاء على يتمها في أول أيام المدرسة. لقد وجد هؤلاء الفتية الذين يعيشون الويلات اليومية في قطاعهم المحاصر، طريقة أكثر حيوية لتطهير الانفعالات والعثور على صلة بالأمل.اضافة اعلان
لا أدري إذا كان ذلك الشعور من مزيج البهجة والغصة والدموع المعلقة في الحنجرة، يغمر نفس كل الفلسطينيين في الوطن والمنفى لدى مشاهدة الفنانين والرياضيين الفلسطينيين، وهم يؤدون في حدث دولي باسم فلسطين. لكن أي شكل تعبيري يتيح ظهور اسم الوطن المسروق، باسمه وعلَمه، يصنع خبرة بالغة الخصوصية بالنسبة لشعب ولِد مع قدر الحرمان من الرموز الوطنية التي يعتز بها بقية سكان الكوكب. ولذلك، يغيب الإنصاف لدى الهجوم على ممارسة فلسطينيين الموسيقى والغناء، باعتبار ذلك ترفاً لا يليق بشعب ينبغي أن يكتفي بالنحيب. ويدرك الحس الشعبي العربي -بغض النظر عن النقد المتعصب- هذه الحقيقة، فيتعاطف الناس تلقائياً مع المشاركين الفلسطينيين من باب تشجيع هويتهم المهددة على الأقل.
اتخذ عمل الأغنية الفلسطينية بعد النكبة مسارين رئيسين: تسجيل وتوثيق الأغنية التراثية، باعتبارها استمرارية تاريخية لمكونات الهوية الثقافية الفلسطينية؛ وظهور الأغنية المقاومة التي اشتغلت على ثيمات الإعلاء من شأن الحالة الثورية، والتحريض على ديمومة المطالبة بالحرية والتحرر. وكان لهذين الشكلين/ المسارين وما يزال دور مهم في حفظ الهوية، باعتبار التراث الفني جزءاً لا يتجزأ من هويات الأمم؛ وكذلك في التعبير عن الأحداث والتحولات، وحتى التوجهات السياسية العامة لمسارات القضية الفلسطينية وتجلياتها العملية.
في المسار الأول، تعمل فرق فلسطينية لا عدد لها، في الداخل والمنفى، على استعادة وأداء الأغنيات والممارسات المرتبطة بمناسبات الأعراس والحصاد والأحداث والشخصيات الوطنية وغير ذلك، مصحوبة بعرض الأزياء الفلسطينية والبيئة والأدوات حين يتسنى ذلك. وفي المسار الثاني، حملت الأغنية شعارات ومنشورات، باعتبار الأغنية وسيلة بالغة التأثير في العاطفة الشعبية. وربما كان أبرز مثال على هذا الشكل، ما قدمته "الفرقة المركزية" التي دعت صراحة وبإصرار، في الستينيات والسبعينيات، إلى الكفاح المسلح باعتباره الوسيلة الأساسية لتحرير فلسطين. وقد تراجعت تلك الأغنية الحماسية التي لعبت دوراً مسانداً كبيراً، مع تغيُّر الوسائل السياسية، بل ويجري التعتيم عليها تقريباً في هذه المرحلة.
باعتبار ضياع فلسطين العنوان الأبرز في التعبير عن ثيمة الحرية، بعد استقلال الدول العربية وذهاب الاستعمار المباشر، أصبح النضال الفلسطيني رمزاً لمطلب الحرية والنضال من أجل الحقوق الإنسانية بالنسبة للشعوب العربية كلها. وقد تجسد إدراك الحس الشعبي للعلاقة الحتمية بين النضالات المحلية وبين تحرير فلسطين، في مختلف أشكال التعبير الثقافي، ومنها الأغنية. ولم تخلُ أعمال الفنانين العرب الملتزمين بالدفاع عن صحة الحالة الإنسانية العربية دائماً، من استلهام الشِّعر الفلسطيني المقاوم والحالة الفلسطينية الثورية، بل واتخذوا منها مركزاً في كثير من الأحيان. وكانت الأغنية بهذا المعنى أداة تضامن بديلة عن الانفصال الرسمي عن الهم العربي العام.
في الفترة الأخيرة، بعد عولمة الإعلام وانتشار الفضائيات، عثر الموهوبون الفلسطينيون في مجال الموسيقى والغناء على طريقة لاختبار حظوظهم في برامج اكتشاف المواهب. ومع أن هؤلاء الفنانين يؤدون الأغنيات العاطفية المعروفة في عروضهم، وبعض الأغاني الفلسطينية الخالصة، فإن مشاركتهم باسم فلسطين تؤكد فكرة الحضور الفلسطيني برغم كل التناقضات. ومهما يكن محتوى مشاركة هؤلاء الفنانين في المسارح الدولية، فإن حضورهم باسم وطنهم يسجل نقاطاً لصالح تعويد العالم المُنكر على أن فلسطين والفلسطينيين موجودون. وبذلك تضيف هذه المشاركات أيضاً، بطريقتها، إلى جهد حفظ الهوية.
في التأكيد على دور الموسيقى، رفض قائد الأوركسترا العالمي دانيال بارنبويم تمثيل كيان الاحتلال، وغادره ليعيش ويعمل في ألمانيا. وكانت فكرته أن الموسيقى، كتعبير عن الهوية وأداة للتأثير، لا ينبغي أن تُستخدم ضد القضايا الإنسانية ولصالح العدوان. وفي المقابل، ينبغي التأكيد على أدوار الموسيقى الفلسطينية كأداة نضالية في خدمة قضية عادلة.