الوطنيات العربية

أثناء المرحلة الأولى من "الربيع العربي" برز صراع بين فكرتين أساسيتين في تفسير التحولات العربية؛ الأولى تحدثت عن مرحلة ازدهار الوطنيات العربية على أسس من الممارسة الديمقراطية والمشاركة ضمن سياق التفاؤل الذي انتاب اللحظات الأولى من تلك المرحلة، فيما دارت الفكرة الثانية على التبشير بعودة القومية العربية من جديد وفق سياق تاريخي جديد. اضافة اعلان
يبدو أن مصير الفكرتين إلى زوال، فلم تكن هذه الأفكار اكثر من أطروحات دعائية استخدمتها وما تزال أطراف الصراع، فيما تؤكد الأحداث كل يوم أن الكيانات العربية المتحولة في الأغلب ابعد ما تكون عن بناء نماذج للكيانات الوطنية بمفهومها التاريخي، فيما اصبحت المنطقة العربية بالمجمل في أبعد نقطة عن فكرة الدولة القومية بالطريقة التي يفهمها الايديولوجيون العرب.
إن الأخبار القادمة من اليمن والعراق وليبيا تؤكد حجم التهشيم الذي لحق بفكرة الوطنيات العربية سواء تلك المؤسسة على إرث دولة الاستقلال الوطنية وعمرها تجاوز في الكثير من هذه الكيانات السبعة عقود، او وفق المنظور الذي جاءت به الثورات والتحولات التي شهدتها هذه الاقطار. إن التعلل بأن مرحلة الانتقال عادة ما تكون صعبة وقاسية وطويلة يبدو أمرا عدميا بل ومدمرا.
ان مصادر التهديد الجديدة التي تتنامى بسرعة وتلقي بآثار قاسية في هذا الوقت على المشهد العربي وعلى رأسها موجة التطرف الديني والتهديد أو الأجندة الايرانية لا مستقبل لهما على المدى الاستراتيجي بالمقارنة مع حجم الآثار طويلة المدى التي يصعب معالجتها، تلك الآثار المنبثقة عن حالة الانقسام التي تضرب في المجتمعات العربية؛ فأحد مصادر التهديد بهذا الشأن يرتبط بغياب رؤية واضحة لمستقبل الوحدة الاجتماعية والجغرافية للكيانات التي عرفت على مدى القرن الماضي.
علينا أن نلاحظ حجم الانقسامات الاهلية التي يديرها سياسيون محترفون بالقتل والفساد، هذه الانقسامات الحدية التي تدشن بالدماء يصعب تجاوزها لاجيال طويلة، فالانقسام الليبي تجاوز الأبعاد الايديولوجية التي تغطي المشهد ويذهب في هذا الوقت عميقا في البنى الاجتماعية والقبلية، وحسب الجهات والمناطق وهو الامر الذي يأخذ منحى لا يقل خطورة في النموذج اليمني او العراقي وحتى السوري.
عند تحليل خرائط الصراع وبناء التحالفات نجد أن كيانات التحولات العربيـة الجديدة لا تحمل تناقضات مع الثقافـة القوميـة السائدة وحسب، بل ومع فكرة الدولة الوطنية وسلوكها في المجال الحيوي، ولا تحمل تناقضات مع الثقافة المشتركة بل مع ابسط مضامين الصلات الثقافية للعيش في محيط مشترك، كنا نتصور أننا أمام بداية  نمو ظاهرة وطنيات عربية تحمل بعض شروط المناعة ضد العنف المباغت مع إمكانية بروز حركـة إصلاحية حقيقية تأتي من الداخل هذه المرة، ولكن مسار الأحداث والتحولات السياسية والاقتصادية قادت الى خيبة أمل جديدة واكتشاف زيف ظاهرة نمو الوطنيات، وأنها لا تنتج عناصر بنائية جديدة بل عناصر دافعة نحو المزيد من الفوضى. وما الصراع الراهن وطبيعة التحالفات الاقليمية والدولية الا الدليل على تراكم هذا الفشل وما ينتجه من اغتراب النخب السياسية الجديدة وتحولهم بسرعة الى أدوات جديدة لإعادة انتاج الاستبداد ولكن هذه المرة وسط الفوضى.