تغييب القضية الفلسطينية

لم تعد القضية الفلسطينية تلقى الاهتمامَ الذي تستحق في الحسابات السياسية والتغطيات الإعلامية. دفعتها الكوارث التي تضرب المنطقة إلى أدنى سلّم الأولويات. لكنَّ هذا التغييب لا يُلغي حقيقةَ أنّ حرمان الشعب الفلسطيني من حقه في الدولة والاستقلال هو أساس الصراع في الشرق الأوسط، وأنّ تلبية هذا الحق هو شرط تحقيق السلام والاستقرار الإقليميين.اضافة اعلان
لا جدل في أنَّ الصراعات الجديدة التي تُمزّق عديد دولِ عربيةٍ تُمثّل تهديداتٍ وجوديةً صعقت الوجدان العربي لما كشفته من وحشيةٍ لم يعتقدها أحدٌ ممكنةً. وكان متوقعاً أن يرى كثيرون إلى النظام السوري أو إلى العصابات الإرهابية من نصرةٍ وقاعدةٍ وداعشٍ وغيرها خطراً يتقدّم مرحلياً على التهديد الذي يُمثّله استمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية.
لكن الالتفات إلى شرٍ لا يبرّر إهمال شرٍ أقدمَ، وأسهم في إيجاد الظروف التي استغلتها أنظمةٌ استبداديةٌ لتبرير دمويّتها، وفي زرع بذور اليأس والإحباط اللذين تغذّى عليهما الإرهاب، ليُقدّم نفسه مخرجاً من حال الهوان والعجز التي كانت السمة الأبرز لعالم العرب على مدى عقود طويلة.
مواجهة تحدي انهيار الحضارة العربية الإسلامية المتبدّي شرساً عصياً في سورية وليبيا واليمن والعراق، والظاهرُ جلياً في تغوّل الجهل والتخلف على المنظومة القيمية العربية ضرورةٌ حتمية. لكن التصدي لمحاولات إسرائيل قتل الحقِّ الفلسطيني ووأد فرص قيام الدولة الفلسطينية معركةٌ رئيسةٌ في هذه المواجهة.
المؤسف أنّ هذه المواجهة لم تنطلق بالجدية اللازمة في أيٍّ من جوانبها.
لا عمل شمولياّ حقيقياً لوقف انهيار البلاد العربية التي تفتّتها الصراعات. ولا تحرّك مؤثراً لإبقاء القضية الفلسطينية على قائمة الأولويات وللضغط على إسرائيل لوقف إجراءاتها الأحادية، التي تسرق أراضي الضفة الغربية، وتستبيح القدس، وتدمّر بنية المجتمع الفلسطيني.
الأخطار التي تهدد الوجود العربي مترابطةٌ إمّا في أسبابها أو في تداعياتها. والتصدي لها لن ينجح إلا إذا جاء شمولياً يعالج هذا الترابط. هذا ما لم يحدث حتى اللحظة. لذلك يستمر الانهيار.
تجاهل القضية الفلسطينية سيجعل المستقبل أصعب. بعد أيام سيشكل نتنياهو حكومةً إسرائيليةً أكثر تطرفاً من أيٍّ من سابقاتها.  وستسير هذه الحكومة في نهج التشدّد الذي أعلنه نتنياهو سياسةً له إزاء الفلسطينيين. ستستمر في مصادرة الأراضي وبناء المستوطنات، ستُوسّع محاولاتها تهويد القدس، وستُغيّر الحقائق بما يقوّض فرص الدولة الفلسطينية.
ومن يدري؟ فقد تستغلُّ إسرائيل الفوضى الإقليمية لتُشعل حرباً تستهدف تهجير مئات الألوف. بدا هذا الطرح ضرباً من الجنون قبل سنوات. لكنه يبدو احتمالاً ممكنا اليوم، بعد أن قدّم الأسد سابقةً بتهجير ملايين السوريين، وكذلك فعل الفشل السياسي العراقي وداعش.
تبعات مثل هذا العمل ستأخذ الدمار الإقليمي إلى أعماقٍ أكبر. ولن يقف أثرها عند حدود دولة. سيعمّ اليأس، وستنتشر الفوضى التي ستخلق المزيد من الدواعش، والتي ستزيد من مساحات تقبلّها عند ألوفٍ جديدةٍ من المحبطين اليائسين.
الرهان على أنَّ خلافات أوباما مع نتنياهو ستُنتج سياسات أميركيةً رادعةً لإسرائيل فاشل. أوباما أضعف من اتخاذ أيِّ قرارٍ ستصوره إسرائيل عدائياً نحوها. عجِزَ عن ذلك في أوجِ قوتّهِ. ولن يقوى على ذلك اليوم وهو بطةٌ عرجاء.
أقلُّ ما يستطيع العرب فعلَه هو إبقاء القضية الفلسطينية حيّةً إعلامياً وسياسياً، وممارسة الضغوط السياسية التي تُعرّي الخطر الذي يُمثّله التطرف الإسرائيلي، بينما يعملون على إطلاق مبادرةٍ شموليةٍ للتعامل مع كلِّ الأخطار التي تواجههم، بما فيها الخطر الإسرائيلي.
لا حلّ عسكرياً في سورية أو في العراق أو ليبيا أو اليمن أو غيرها. الحلُّ سياسي. هذا ما يتفّق عليه الجميع. لماذا لا يتبلور مثل هذا الحلِّ إذن؟ ثمة دولٌ عربيةٌ ما تزال متماسكةً، وتملك الحدَّ الأدنى من الالتقاء في المصالح. تستطيع هذه أن تُنتج مبادرةً شموليةً تقترح حلولاً تعي ترابط التحديات، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، وتقدّمها إلى العالم طلباً للعون والإسناد لأنَّ في ذلك حماية لمصالحه أيضاً.
فالمنطق والتاريخ والحقائق تقول إنَّ إنهاء معاناة الشعب الفلسطيني شرطٌ لن ينعم الشرق الأوسط بالسلام، أو ينتصر على التطرف، من دونه.