جدل في بلاط صاحبة الجلالة

هل يمكن لصحيفة أو موقع إخباري، أو أي مؤسسة إعلام، نشر تصريح أو بيان لحزب أو شخص أو جماعة، يدعو، مثلا، إلى هدر دم فلان أو علان بتهمة الردة؛ وذلك بدعوى المهنية والموضوعية، والحق في نشر جميع الآراء والمواقف في المجتمع، ومن باب أن ما ينشر هو مجرد خبر لا علاقة للصحيفة به ولا يمثلها، كما أغلب ما ينشر فيها؟اضافة اعلان
هو جدل ونقاش يجري يوميا في غرف الأخبار في الصحف ووسائل الإعلام الأخرى، ولا يقتصر على أخبار الردة وهدر الدم، بل يشمل مروحة واسعة من الأخبار والمجالات والقضايا التي يمور بها المجتمع والعالم، ترتبط في الغالب بالجوانب الاجتماعية، والأخلاقية بنسبيتها، فضلا طبعا عن المحددات القانونية للنشر، والتي قد تكون (هذه الأخيرة) الأسهل في حسم جدل غرف التحرير والنشر في الصحف، لوضوحها عبر نصوص وقوانين ملزمة.
مناسبة هذه الخواطر تجاه نقاشات وجدل بلاط صاحبة الجلالة (الصحافة)، توالي تصريحات و"فتاوى" دينية من أشخاص ورموز في بعض حركات الإسلام السياسي، خلال اليومين الماضيين، تجاه الفنانة اللبنانية هيفاء وهبي، وما جرى معها في برنامج "رامز عنخ آمون" الذي بثته فضائية مصرية الخميس الماضي؛ لتنتشر حلقة هيفاء خلال ساعات على مواقع التواصل الاجتماعي و"يوتيوب" كما النار في الهشيم، وتنهال عليها التعليقات والشتائم والاتهامات من كل حدب وصوب، وتصل إلى تنطح بعض المشايخ لإصدار فتاوى الردة وهدر الدم.
ليست القضية التي أنا بصددها هنا هي مناقشة ما جرى في تلك الحلقة التلفزيونية، ولا في دقة وصحة ما نسب إلى الفنانة هيفاء من ألفاظ، ولا في الظروف المحيطة بتلك الواقعة. والقضية ليست متعلقة أيضا بمناقشة الفتوى وشروطها وأحكامها. بل هي هنا متعلقة بالنشر الصحفي والتناول الإعلامي، وهو سؤال يواجه المحرر والصحفي وغرف التحرير يوميا، وفي قضايا متنوعة.
لدينا محليا، مثلا، جدالات ونقاشات يومية حول ما يمكن أن يُنشر من أخبار وآراء، حتى في ظل توفر الشروط القانونية للمادة الصحفية مع قليل من التحرير، واستكمال بعض الشروط المهنية؛ من تضمين الرأي الآخر في المادة وغيره. فغرف التحرير تستقبل كثيرا، وبصورة متكررة، بيانات لأحزاب أو منظمات أو مؤسسات أو أشخاص، بعضهم اعتباريين، تتناول قضية سياسية أو اجتماعية أو ثقافية أو دينية، أو هي تعليق على حدث ما، لكنها تحمل مواقف تنزلق نحو إشاعة الكراهية أو التحريض، مباشرة أو ضمنيا، على مكونات مجتمعية أو شرائح اجتماعية أو فئات معينة في المجتمع.
فيما تنزلق أخبار وبيانات ومقالات أخرى باتجاه إلقاء الأحكام الأخلاقية والقيمية، بنسبيتها، على هذه الجهة أو تلك، أو التنطح لأخذ دور القضاء أو أصحاب الاختصاص، بإلقاء الفتاوى والأحكام القاطعة، والتي قد لا تشكل مخالفة نشر قانونية مباشرة، لكنها تحمل تحريضا غير مباشر، أو إشاعة للكراهية، أو تشجيعا للجريمة لأسباب سياسية أو دينية أو إثنية وعرقية.
قد تطول قائمة الأمثلة حول مثل هذه الأخبار والمقالات التي تواجه الصحافة يوميا، بعضها يمر ويجد طريقه للنشر لأسباب مختلفة، وبعضها يُمنع من قبل غرف التحرير، فيما تتباين، وأحيانا حد التناقض، مواقف الصحف وآلياتها في التعامل مع قضية النشر في هذه المواضيع والأخبار والمقالات، بل وقد يبدو التفاوت والتناقض فاقعا حتى داخل الصحيفة الواحدة أحيانا.
لا تبدو هذه القضية هاجسا كبيرا لدى العديد من الصحف العالمية العريقة، التي أسست لمهنيتها وتقاليدها، رغم العديد من الملاحظات السياسية هنا أو هناك؛ فثمة مواثيق مهنية وأخلاقية، ضمن معايير علمية واضحة للنشر، لا تقلل من ارتفاع سقف الحرية فيها، بل تزيده موثوقية ومسؤولية مجتمعية، وبما يعزز في المحصلة ثقة القارئ بالدور المجتمعي للصحيفة.
أما الصحافة الأردنية والعربية، فإن فيها أزمة وخللا واضحين بعدم توفر معايير ذاتية ومهنية للنشر في أحيان كثيرة، ولا التزام في بعض الأحيان بمواثيق الشرف الصحفي ومعايير المسؤولية المجتمعية للإعلام، لأن القصة ببساطة مرتبطة، إلى حد كبير، بأزمة استقلالية الصحافة عن السلطة السياسية، وتراجع مفهوم المؤسسية في العديد من الحالات، وغيرها من أبعاد.

[email protected]