خطايا وأخطاء

لن نستطيع مصادرة حق البشر في ارتكاب الأخطاء والخطايا. ولكننا نسأل عن هامش ألمنا إزاء تلك الحماقات.
ذلك ما برر به للآخرين، غير أنه لم يستطع أن يكون متسامحا بالقدر ذاته مع نفسه التي جلدها على مدار عشرين عاما، وهو ينظر إلى خطيئته الأولى، والتي اعتبرها وحيدة في سياق حياة كاملة من الألم.اضافة اعلان
عندما ينظر إلى الجزء الأول من الحقيقة التي قررها هو بنفسه، تفترّ شفتاه عن ابتسامة فرح خفي، يحاول أن ينطلق منها إلى الحياة بلا عقد أو خطايا. لكنه يتوقف طويلا عند أفكاره الشخصية بالذات، والحقائق التي قررها هو دون غيره، ويتفكر في الآلام التي سببها لأولئك الذين لا يمكن له نسيانهم!
مرة، خطر له إجبار نفسه على التوقف عن استذكار الماضي والألم. في الأيام الأولى كان ذلك صعبا للغاية. ولكنه، وتدريجيا، تعود على ذلك؛ أصبحت الأمور أكثر احتمالا حين بدأ بالتفكير في أن حياته على وشك الانتهاء، وأنه لن يكون مضطرا إلى اختبار كل تلك المساحة من الألم.
كانت انعطافة مهمة في حياته التي بدأت تتحول إلى أمر تلقائي بانتظار نهاية معلومة الحواشي، ومن غير تكلّف يقتل الانسيابية التي اختارها.
لم يضحك حين قالت له العرّافة المغربية يوما إن عليه أن يحذر من الأشياء التي يحبها أكثر من غيرها. بدا مندهشا ومشوشا وغير قادر على استيعاب الحديث. حين قرأت حيرته، قالت له بهدوء غير مصطنع: "إنها الأشياء التي تقدر على أن تسبب لك الأذى والألم أكثر من غيرها".
لم يكن في حاجة لامتحان الحقيقة. كانت نصيحة لم تأخذ في مقابلها سوى دقائق من اللذة غير الكاملة، والمشوشة، بحيث لا يمكن أن تكون حقيقية. غير أنها كانت دائما تصبغ وجهها وابتسامتها بالرضا، ولم يستطع يوما أن يفسر جوّانيتها، هل كانت فعلا تشتاق إليه، كما كان يفعل هو أحيانا، أم أنها من مقتضيات الصفة التي منحتها لنفسها، والصورة التي أحبت أن يراها الآخرون بها؟
تلك معضلة حقيقية. فبعد عشرين عاما، يكون من الصعب البحث عن إجابات حقيقية لخواطر قديمة، وأسئلة كنت جبنت عن أن تطرحها، فظلت مفتوحة الحواشي، وقابلة للتأويل على أكثر من وجه.
غير أنه علم أن الحكاية تبدأ ببطل مغمور، وليس بقاص مبهر، وأن الحب حكاية تُروى عن الخذلان، وأن الحكمة العظيمة ربما لا نحفظ سياقاتها، ولكننا نستطيع أن نتمثل جوهرها بلا أي تزييف.
علم، في ما بعد، أنه لم يتحدد بعد زمن معين للنسيان، فالذاكرة ليست مثقوبة تماما، بل هي تحفظ ما تريده من الألم، وتلفظ حياة كاملة يمكن أن تتحدد بأطر جديدة، وبمعطيات، ربما، تؤسس لأشياء لا تشبه الماضي بكل تأكيد.
الرعشة التي اعترته مرتين اثنتين لا غير، علم مردها؛ كانت الأولى في برد الشارع الذي لا يتعاطف مع الضعفاء، والثانية كانت في برد مبهم جثم على الروح من غير سابق إنذار.
بشهوته لليأس، ورغبته في أن تتم الحكاية في أقصر فواصلها، وأقل تفاصيلها، وأدنى حوادثها، علم أن في الشارع جوعا وغواية وإلهاما وفقرا وغنى ومعاصي كثيرة. علم أن في الشارع حياة كاملة من الألم الذي يستطيع أن يحياه من غير توقف.
ولكنه يشك في أنه يستطيع العيش من جديد، فكل النصوص التي وردت قبل فاصلة الموسيقا كان شطبها منذ زمن بعيد. حتى حين قال لها: "عيناك دفتري الورقي الأخير"، وأنه سيغني لها أغنيات الفرح بصوته الأجش الخالي من الفرح، كان يعلم أنه في حاجة إلى ورقة واحدة ليملأ الدنيا بالألوان الحزينة التي لا يفهمها غيره.
انطلق في نوبة ضحك هستيرية حين مرت تلك البديهيات في خياله المريض. أجل، يعلم ذلك بكل تأكيد، فهو ينزع إلى الكآبة، كما ينزع السليمون إلى الحياة وبهجتها. يعلم منذ البداية أن جزءا من إدراك الإنسان لقيمة ذاته، يكون بإدراكه ما يفتقر إليه. تنهد بعمق حين استعرض هذا الخيار الأخير. لن يكون بمقدوره إحصاء كل ما يفتقر إليه.. إنها الحياة الكاملة، والرغبة في أن تكون طبيعية.

[email protected]

mwaffaq001@