سورية.. حل اللاحل

المعارض السوري برهان غليون يتحدث في أحد مؤتمرات أصدقاء سورية - (أرشيفية)
المعارض السوري برهان غليون يتحدث في أحد مؤتمرات أصدقاء سورية - (أرشيفية)

فولكر بيرتس*
برلين- الخطة الروسية الأميركية لإزالة الأسلحة الكيميائية السورية -والتي أصبح يجسدها الآن قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 2118- قد تفتح مجالاً أكثر إيجابية لإنهاء الحرب الأهلية الدائرة في البلاد، لأن مجلس الأمن يطالب أيضاً بعقد مؤتمر جنيف الثاني الذي طال التخطيط له بشأن سورية في أقرب وقت ممكن. والحق أن التخلص من مخزون الأسلحة الكيميائية لدى سورية لا بد أن يتزامن مع عملية سياسية ترمي إلى إنهاء الحرب هناك.اضافة اعلان
من الناحية العملية، لا يمكن تنفيذ الجهود الرامية إلى التحقق من المخزون الضخم من الأسلحة الكيميائية لدى سورية وتأمينها ثم تدميرها في نهاية المطاف، من دون التوصل على الأقل إلى اتفاق دائم لوقف إطلاق النار. ولكن تزامن العمليتين ضروري لأسباب أخرى أيضاً.
بعيداً عن المعاناة الإنسانية الناجمة عن الحرب الدائرة في سورية، ينبغي لنا أن نعي العواقب الإقليمية الوخيمة المحتملة. ويحذر بعض المراقبين الآن من "لبننة" سورية -تقسيم البلاد إلى إقطاعيات متنافسة ومناطق شبه مستقلة. ولكن تفكك سورية ليس السيناريو الوحيد الممكن. والواقع أن الاستعارة اللبنانية في حالتنا هذه حميدة أكثر مما ينبغي. فخلافاً للبنان أثناء حربه الأهيلة التي دامت خمس عشرة سنة، لن تتمكن أي قوة إقليمية اليوم من احتواء الحرب في سورية وإبقائها داخل حدودها. ونتيجة لذلك، من الأرجح أن يكون تفكك سورية سبباً في وضع نظام ما بعد الحرب العالمية الأولى بالكامل (أو ما بعد الإمبراطورية العثمانية) في الشرق الأوسط -والذي يسمى أيضاً نظام "سايكس بيكو"- موضع تشكيك وتساؤل.
الواقع أن عدم الاستقرار على مستوى المنطقة كلها ليس بالسيناريو النظري؛ إنه نابع من التطورات على الأرض. فقد بدأت الملامح السياسية الراسخة في لبنان تنطمس بالفعل تحت وطأة الضغوط الهائلة التي يفرضها الصراع السوري. وقد نشأت منطقة يسيطر عليها، بحكم الأمر الواقع، حزب الله اللبناني وقوات النظام السوري، والتي تمتد بين بعلبك وحمص على جانبي الحدود اللبنانية السورية.
وعلى نحو مماثل، خلق القتال ظروفاً شديدة الميوعة في المناطق ذات الأغلبية الكردية في العراق وسورية. فمنذ سقوط صدّام حسين، أسست حكومة إقليم كردستان في شمال العراق حكماً ذاتياً فعلياً في مقابل الحكومة المركزية في بغداد. وقد تدفع التطورات الإقليمية والمحلية السلطات الكردية في العاصمة أربيل إلى إعلان الاستقلال الرسمي. وبفضل دخلها من النفط وعلاقاتها الطيبة بجارتها تركيا، فإن مثل هذه الدولة ستصبح قادرة على البقاء. والواقع أن حكومة إقليم كردستان أوضحت منذ فترة طويلة أنها تحترم السيادة التركية، وأنها لن تتدخل في العلاقة بين حكومة تركيا وسكانها الأكراد. وإذا كان ذلك بغرض تعزيز أمنها فحسب، فإن حكومة إقليم كردستان تحاول بسط سلطتها، سواء بشكل رسمي أو غير رسمي، على شمال سورية.
القبول الإقليمي لمشروع بناء الدولة الكردية التي تتجاوز الحدود التي تسيطر عليها حكومة إقليم كردستان اليوم سوف يعتمد، بين أمور أخرى، على حجم الطموحات الوطنية للأكراد. ومن منظور تركيا، فإن قيام كونفدرالية تتألف من منطقة شمال شرق سورية مع حكومة إقليم كردستان، قد يكون أفضل من الاضطرابات الكردية المحلية المستمرة، وأفضل كثيراً من حكم حزب العمال الكردستاني المعادي لتركيا على طول حدودها مع سورية. وفي المقابل، فإن أي محاولة من قِبَل حكومة إقليم كردستان لإقامة ممر كردي إلى البحر الأبيض المتوسط سوف تلقى مقاومة شديدة بكل تأكيد، ليس فقط من جانب تركيا، بل وأيضاً من جانب فصائل أخرى متحاربة في سورية.
ولكن، ماذا قد يعني الاستقلال الكردي بالنسبة لبقية العراق؟ إنها ليست مسألة أرض وحدود ونفط فحسب، بل هي أيضاً مسألة تتعلق بتوازن القوى في الداخل. فمع إزالة الخروج الكردي للعنصر التأسيسي الثالث -إلى جانب العرب الشيعة والسُنّة- في السياسة العراقية، فإن الاستقطاب الطائفي في البلاد سوف يزداد عمقاً على أغلب الظن.
وعلاوة على ذلك، فإن الاستقلال الكردي قد يشجع مطالب الحكم الذاتي في المحافظات ذات الأغلبية السُنّية المتاخمة لسورية والأردن والمملكة العربية السعودية -وهي المنطقة الثالثة حيث تعمل الحرب الأهلية في سورية على حجب الحدود الدولية. كما أن العلاقات الاجتماعية والقَبَلية والاقتصادية بين محافظة دير الزور في سورية ومحافظة الأنبار في العراق قوية، وازدادت قوتها مع انحسار سيطرة الحكومتين السورية والعراقية.
من المدهش أن نرى هذا العدد الكبير من المراقبين الإقليميين الذين يتوقعون أو يأملون أو يخشون أن تؤدي مثل هذه التطورات بشكل أو بآخر وشبه تلقائي إلى "سايكس-بيكو" جديدة -بمعنى تأسيس نظام إقليمي جديد في الشرق الأوسط من قِبَل القوى العظمى اليوم. (البحث على محرك غوغل عن "سايكس بيكو" الجديدة باللغة العربية يقودك إلى نحو 52 ألف نتيجة). والحق أن مثل هذه التوقعات غير واقعية على الإطلاق. فقد تعلم الأوروبيون والأميركيون -وتعلمت الصين وروسيا وغيرهما من التجربة العربية- أن القوى الخارجية لا تستطيع أن تهندس بنجاح ترتيبات سياسية أو نظاماً إقليمياً في الشرق الأوسط.
بدلاً من تصور أو رسم حدود جديدة، يتعين على القوى الإقليمية والخارجية أن تركز جهودها على تعزيز تماسك سورية. ويشكل مؤتمر جنيف الثاني المرتقب خطوة أولى ضرورية في هذا الاتجاه.
من المؤكد أن أسباب التشاؤم عديدة بشأن استعداد الأطراف المتحاربة في سورية للانخراط في مفاوضات جادة. والحق أن لا أحد -لا روسيا ولا الولايات المتحدة ولا إيران ولا المملكة العربية السعودية أو غير ذلك من الرعاة الخارجيين، سواء للنظام أو المعارضة- يستطيع أن يضمن نجاح مؤتمر جنيف الثاني. ولكن كل هذه الأطراف ستكون قادرة على تحسين شروط التفاوض من خلال إرسال الإشارة نفسها إلى كل الأطراف السورية، وهي على وجه التحديد أنها تستبعد من الآن فصاعداً أي احتمال لنصر عسكري يحرزه أي جانب على الآخر.
وهكذا، يتعين على روسيا وإيران إبلاغ الرئيس السوري بشار الأسد بأنهما لن تدعما جهوده الساعية إلى تحقيق نصر عسكري. وينبغي للملكة العربية السعودية والولايات المتحدة وتركيا وغيرها أن تبلغ الائتلاف الوطني السوري لقوى الثورة والمعارضة بأنه لن يفوز في ساحة المعركة؛ وينبغي للسلفيين أن يسمعوا الرسالة نفسها من المملكة العربية السعودية أيضاً. ويتعين على تركيا وقطر من جانبهما أن تمررا نفس الرسالة إلى جماعة الإخوان المسلمين. ولا بد أن تكون الرسالة إلى كل هذه المجموعات متسقة: سوف نستمر في دعمكم سياسياً ومالياً وفي المفاوضات مع النظام السوري، ولكننا لن ندعم أي حل عسكري بعد الآن.
سيكون من شأن ذلك أن يعمل كحافز قوي لدفع جميع الأطراف إلى الذهاب إلى مؤتمر جنيف. لن تبدأ الأطراف المتحاربة التفاوض الجاد إلا إذا أيقنت أن البدائل الأخرى أصبحت مستحيلة.

*رئيس ومدير مطبوعتي ستيفتانغ فسينشافت وبوليتيك، ورئيس المعهد الألماني لشؤون الأمن الدولي في برلين.
*خاص بـالغد، بالتعاون مع "بروجيكت سنديكيت".