في تشريح عدم اليقين الاقتصادي العالمي

محمد عبد الله العريان*
نيوبورت بيتش - لقد أصبح شعور عدم اليقين السائد في الغرب واضحاً ملموسا، وهو شعور مبرر في واقع الأمر. فالناس قلقون حول مستقبلهم، حيث يخشى القسم الأعظم منهم الآن أن تكون حال أبنائهم في المستقبل أسوأ من حالهم اليوم. ومن المؤسف أن الأمور سوف تصبح أكثر إزعاجاً في الأشهر المقبلة.اضافة اعلان
فالولايات المتحدة تواجه صعوبات في إعادة اقتصادها إلى مسار النمو المرتفع وتوفير فرص العمل بقوة. فقد نزل الآلاف من الأشخاص إلى شوارع المدن الأميركية، كما نزل آلاف غيرهم إلى شوارع المدن في أوروبا، للمطالبة بنظام أكثر عدلا. وفي منطقة اليورو أرغمت الأزمة المالية حكومتين على الاستقالة، فأتى في محل الممثلين المنتخبين موظفون تكنوقراط معينون مكلفون باستعادة النظام. ويستمر في التصاعد الانزعاج إزاء السلامة المؤسسية لمنطقة اليورو ــ المكون الأساسي لأوروبا الحديثة.
وتمتد حالة عدم اليقين هذه لتتجاوز حدود البلدان والمناطق. فهؤلاء الذين يتطلعون إلى ما هو أبعد من المنعطف التالي يشعرون بالقلق أيضاً إزاء استقرار النظام الاقتصادي الدولي حيث تتسبب الصعوبات التي يواجهها القلب الغربي للنظام في التآكل التدريجي للمنافع العامة العالمية.
وليس من قبيل المصادفة أن تقع كل هذه الأحداث متزامنة. فكل تطور، وحدوثه مترادف مع غيره بكل تأكيد، يشير إلى التغيرات التاريخية التي طرأت على النماذج والتي تعمل على تشكيل الاقتصاد العالمي اليوم ــ والانزعاج المصاحب لخسارة الركائز التي كان الاعتماد عليها ممكناً ذات يوم، سواء أكانت اقتصادية ومالية، أو اجتماعية وسياسية.
لا شك أن استعادة هذه الركائز سوف يستغرق بعض الوقت. فلا توجد خطة واضحة للعب حتى الآن، والسابقات التاريخية لا تنير الطريق أمامنا إلا جزئيا. ولكن هناك أمران واضحان على الرغم من ذلك: فالبلدان المختلفة تلجأ إلى اختيارات مختلفة، سواء مختارة أو مضطرة؛ والنظام العالمي ككل يواجه تحديات في التوفيق بين هذه الاختيارات.
سوف يستغرق تطور بعض التغيرات أعواماً عديدة قبل أن تتجلى أبعادها؛ وبعضها الآخر سوف يكون مفاجئاً وأكثر تدميرا. مع ذلك، ورغم ما يبدو عليه كل هذا من تعقيد ــ التغيرات التي تطرأ على النماذج شأن معقد بحكم التعريف، ونادراً ما تحدث لحسن الحظ ــ فإن الاستعانة بإطار تحليلي بسيط قد تساعدنا في تسليط الضوء على ما ينبغي لنا أن نبحث عنه، وماذا نتوقع وأين، وما هي أفضل سبل التكيف.
يعتمد هذا الإطار على طريق تحليلي مختصر غالباً ما يستخدم: تحديد مجموعة محددة من المتغيرات التفسيرية في ما يطلق عليه الإحصائيون "معادلة الشكل المصغر". وليس الهدف من هذا وضع كل شيء في الحسبان، بل تحديد عدد قليل من المتغيرات القادرة على شرح العوامل الرئيسية، ولو لم يتم ذلك بشكل تام أو بالكامل.
وباستخدام هذا النهج، يصبح من الممكن أن نزعم أن مستقبل العديد من الاقتصادات الغربية، ومستقبل الاقتصاد العالمي، سوف يصاغ وفقاً لقدرة هذا الاقتصاد على الإبحار عبر الأبعاد الديناميكية المالية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية الأربعة المتشابكة.
يتعلق البعد الأول بالميزانيات. فالعديد من الاقتصادات الغربية يتعين عليها أن تتعامل مع التركة البغيضة المتراكمة عبر سنوات من الإفراط في الاقتراض والاستدانة؛ أما الدول التي لا تعاني من هذه المشكلة، مثل ألمانيا، فإنها مرتبطة بجيران لها تعاني منها. وفي مواجهة هذا الواقع فإن الدول المختلفة سوف تلجأ إلى خيارات مختلفة في تقليص الديون. والآن بات التمايز والتباين واضحاً بالفعل.
وتواجه بعض البلدان، مثل اليونان، موقفاً بالغ الخطورة، حتى بات من الصعب أن نتخيل أي نتيجة غير العجز عن سداد الديون على نحو مؤلم وصادم والمزيد من الاضطرابات الاقتصادية؛ ومن غير المرجح أن تكون اليونان الدولة الغربية الوحيدة التي تضطر إلى إعادة هيكلة ديونها. ولقد تحركت دول أخرى مثل المملكة المتحدة بسرعة حتى يتسنى لها التحكم في مصيرها بشكل أكثر قوة، ولو أن تدابير التقشف التي اتخذتها سوف تشتمل حتماً على تضحيات كبرى.
وهناك فريق ثالث تحت قيادة الولايات المتحدة، لم يتخذ بعد خيار تقليص الديون الصريح. ولأن الدول المنتمية إلى هذا الفريق ما يزال أمامها المزيد من الوقت، فإنها تستخدم مساراً أقل وضوحاً وأكثر تدريجية من "القمع المالي"، وبموجب هذا المسار يُفرَض خفض أسعار الفائدة فرضاً بحيث يعمل الدائنون، بما في ذلك هؤلاء من ذوي الدخول الثابتة المتواضعة، على دعم المدينين.
وترتبط عملية تقليص الديون ارتباطاً وثيقاً بالمتغير الثاني ــ على وجه التحديد، النمو الاقتصادي. والأمر ببساطة أنه كلما كانت قدرة أي دولة على توليد دخل إضافي أكبر، كلما ازدادت قدرتها على الوفاء بالتزامات الدين مع حفاظها في الوقت نفسه على مستويات معيشة المواطنين وتحسينها.
ويتعين على العديد من البلدان، بما في ذلك إيطاليا وإسبانيا، أن تتغلب على الحواجز البنيوية التي تعوق القدرة التنافسية والنمو وتوفير فرص العمل من خلال سنوات عديدة من إصلاح أسواق العمل ومعاشات التقاعد والإسكان والحوكمة الاقتصادية. والواقع أن بعض البلدان، مثل الولايات المتحدة، قادرة على الجمع بين الإصلاحات البنيوية وتحفيز الطلب في الأمد القريب. بيد أن قِلة من هذه البلدان، بقيادة إلمانيا، تجني الآن ثمار سنوات من الإصلاحات الراسخة (والتي لم تُقَدَّر حق قدرها).
ولكن النمو، وإن كان يشكل ضرورة واضحة، فإنه ليس كافياً بحد ذاته، نظراً لارتفاع معدلات البطالة اليوم والمدى الذي بلغه التفاوت في الدخول والثروات. ومن هنا فإن البعد الثالث: فالغرب لا يواجه تحديات فيما يتصل بمحاولته تحقيق النمو فحسب، بل وأيضاً في تحقيق "النمو الشامل"، الذي يشتمل بلا أدنى شك على قدر أعظم من "العدالة الاجتماعية".
وهناك في واقع الأمر شعور عميق بأن الرأسمالية في الغرب أصبحت جائرة. فقد استحوذ بعض اللاعبين، بقيادة البنوك الكبرى، على أرباح طائلة أثناء فترة الازدهار والرواج، وأفلتوا من الخسائر العميقة المستحقة أثناء فترة الركود. ولم يعد المواطنون على استعداد لقبول الحجة القائلة بأن هذه النتيجة المؤسفة تعكس الدور الاقتصادي الخاص الذي تلعبه البنوك. فما الذي قد يحملهم على قبولها في ضوء فشل عمليات الإنقاذ غير المسبوقة في إحياء النمو وتشغيل العمالة؟
لن تخفت الأصوات المطالبة بنظام أكثر عدلا، بل إنها سوف تنتشر وتصبح أكثر صخبا. ولم يعد أمام الغرب أي خيار غير إيجاد توازن أفضل ــ بين رأس المال والعمالة، وبين الأجيال الحالية والمقبلة، وبين القطاع المالي والاقتصاد الحقيقي.
وهذا يقودنا إلى المتغير الأخير، أو الدور الذي يلعبه الساسة وصناع القرار. فقد بات من المألوف في كل من أميركا وأوروبا أن يُشار إلى الافتقار المعوق إلى "الزعامة"، وهو ما يسلط الضوء على مدى الإجهاد الذي يفرضه تغير النماذج بهذا النحو المعقد بطبيعته على العقليات التقليدية، والعمليات، وأنظم الحكم.
إن الدول الغربية، خلافاً للاقتصادات الناشئة، ليست مجهزة تجهيزاً جيداً للتعامل مع التغيرات البنيوية والعلمانية ــ وهو أمر مفهوم أيضا. ذلك أن تاريخها ــ وخاصة أثناء الفترة التي أطلق عليها بالخطأ "فترة الاعتدال الأعظم" بين العامين 1980 و2008 ــ كان يتسم بالتقلب الدوري في الأغلب الأعم. وكلما طال فشلها في التكيف والتعديل، كلما تعاظمت المخاطر.
ولكن لا ينبغي لهؤلاء عند الطرف المتلقي لهذه الديناميكيات الأربع ــ الغالبية العظمى منا ــ أن يستسلموا للشلل بفعل عدم اليقين والقلق. بل إننا قادرون بدلاً من ذلك على الاستعانة بهذا الإطار البسيط لرصد ومراقبة التطورات، والتعلم منها، ثم التكيف في نهاية المطاف. صحيح أننا سوف نظل عُرضة للتقلبات، والضغوط غير العادية، والنتائج الغريبة تاريخيا، ولكن يتعين علينا أن نتذكر أن هذه النقلة النوعية العالمية تنطوي على قدر كبير من التغيير فيما يتصل بالفرص، وليس المخاطر فحسب.


*الرئيس التنفيذي والمسؤول الإعلامي المشارك لمؤسسة بيمكو.
خاص بـ "الغد" بالتعاون مع بروجيكت سنديكيت.