مقاصد الصيام: تربية للفرد والمجتمع

الصيام يربّي العبد على التطلع إلى الدار الآخرة حيث يتخلى عن بعض الأمور الدنيوية - (أرشيفية)
الصيام يربّي العبد على التطلع إلى الدار الآخرة حيث يتخلى عن بعض الأمور الدنيوية - (أرشيفية)

انطلاقا من قوله تعالى:"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ". (سورة البقرة الاية 183). وقوله تعالى:" شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ " (سورة البقرة الآية 185). اضافة اعلان
فإنّ معاني الصيام تتمثل في تحقّق التقوى بين المسلمين، بكلّ يسر وسهولة دون أيّ مشاق زائدة، ولتشمل جميع مقاصد التربية سواء المتعلقة بالفرد أو المجتمع، لذلك يرى أستاذ الشريعة الإسلامية في مدارس الأصالة والمعاصرة د. عامر القضاة أنّ من أهم فضائل الصيام على مستوى الفرد أنّه يمنعه من كلّ معصية، ويوجّهه إلى كلّ طاعة، وهو يحمل الفرد إلى الرشد، ممّا يؤدي إلى إلى حمل المجتمع بأكمله إلى الرشاد.
ويرى المشرف العام على موقع الإسلام اليوم الدكتور سلمان العودة أنّ مقاصد الصيام، تتمثل في:
المقصد الأول: أن الصوم مرتبط بالإيمان الحق بالله جل وعلا؛ ولذلك جاء أن الصوم عبادة السر؛ لأن الإنسان بإمكانه ألاّ يصوم إن شاء، سواء بأن يتناول مأكولاً أو مشروبًا، أو بمجرد فقد النية، وإن أمسك طوال النهار.
إذن فالصوم عبادة قلبية سرية بين العبد وربه، فإن امتناع العبد عن المفطرات على الرغم من استطاعته الوصول إليها خفية دليل على استشعاره اليقيني لاطلاع الله تعالى على سرائره وخفاياه، وفي ذلك -بلا ريب- تربية لقوة الإيمان بالله - جل وعلا- وهذا السر الإيماني يجري في سائر العبادات التي يتقرب بها العبد إلى خالقه سبحانه.
ففي الصلاة مثلا، يقرأ المصلي في قيامه الفاتحة، وفي ركوعه يقول: سبحان ربي العظيم، وفي سجوده يقول: سبحان ربي الأعلى، وفي جلوسه بين السجدتين يقول: رب اغفر لي، وفي التشهد يقول: التحيات لله.. الخ، وكل هذا يقوله سرًا لا يسمعه مجاوره الملتصق به، أتراه لو لم يكن مؤمنًا بعلم الله تعالى بهمسات لسانه، وخواطر ذهنه، ووساوس قلبه، أتراه يدعو ويذكر الله سبحانه وتعالى في صلاته بهذه السرية، التي لا يطّلع عليها إلا ربه –سبحانه-(وَإنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى) [طه: 7].
المقصد الثاني: أن الصيام يربي العبد على التطلع إلى الدار الآخرة، حيث يتخلى عن بعض الأمور الدنيوية؛ تطلعًا إلى ما عند الله تعالى من الأجر والثواب؛ لأن مقياسه الذي يقيس به الربح والخسارة مقياس أخروي، فهو يترك الأكل والشرب والملذات في نهار رمضان؛ انتظارًا للجزاء الحسن يوم القيامة، وفي ذلك توطين لقلب الصائم على الإيمان بالآخرة، والتعلق بها، والترفع عن الملذات الدنيوية العاجلة.
هذا مع ما له في الصوم من النعيم، والحياة الطيبة في الدنيا: من صحة البدن، وفرح القلب بالطاعة، والسعادة، وانشراح الصدر بالإيمان.
أما أصحاب المقاييس المادية الدنيوية، فإنهم ينظرون إلى الجانب الدنيوي القريب في الصوم؛ فلا يرونه إلا حرماناً من لذة الأكل والشرب والشهوة، التي تحصل بها سعادة للنفس، وتلبية لحاجات الجسد. ولا ينظر هؤلاء إلى الجانب الأخروي، الذي يمثل الجزاء الحقيقي، والخلود الصحيح؛ مما يعدم أو يضعف في قلوبهم التطلع إلى الآخرة وما فيها من النعيم.
وحين يتقرب العبد إلى ربه بترك محبوبات نفسه ومشتهياتها من الطعام والشراب والشهوات، يظهر بذلك صدق إيمان العبد، وكمال عبوديته لربه، ومحبته له، ورجائه ثواب الله؛ لان العبد لا يترك ما يحبه إلّا لما هو أعظم عنده منه
المقصد الثالث: أن في الصيام تحقيقًا للاستسلام والعبودية لله جل وعلا؛ إذ الصوم يربي المسلم على العبودية الحقة، فإذا جاء الليل أكل وشرب؛ امتثالاً لقول ربه الكريم (وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ) [البقرة: 187].
وإذا طلع الفجر أمسك عن الأكل والشرب، وسائر المفطرات؛ امتثالاً لأمر الله تعالى { ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلى الَّيْلِ } [البقرة: 187].
وهكذا يتربى المسلم على كمال العبودية لله، فإذا أمره ربه تعالى بالأكل في وقت معين أكل، وإذا أمره بضد ذلك في وقت آخر امتثل، فالقضية ليست مجرد أذواق وشهوات وأمزجة، وإنما هي طاعة لله تعالى، وتنفيذ لأمره.
وهذا المعنى متحقق في الصلاة والحج وغيرهما، فالعبد في صلاته حينًا يقف، وحينًا يركع، وحينًا يسجد، وحينًا يقعد؛ لأن هذا هو أمر الله ومراده، فيحقق المصلي العبودية بامتثاله.
هكذا يتربى المؤمن على معنى الاستسلام والعبودية لله تعالى، بحيث يأمره بالشيء؛ فيمتثل، ويأمره بضده؛ فيمتثل، سواء أدرك الحكمة أو لم يدركها.
 المقصد الرابع: أن الصوم تربية للمجتمع:
وذلك أن الصائم حين يرى أن الناس من حوله صيام كلهم؛ فإن الصوم يكون يسيرًا عليه، ويحس بالتلاحم مع المجتمع الذي يربطه به جانب عبادي، يلتقي عليه الجميع.
إن الذي يقارن بين صوم النافلة وصوم رمضان يجد أن في صوم النافلة شيئًا من الكلفة، بينما يجد أن صوم رمضان المفروض يسير سهل، لا كلفة فيه، ولا مشقة؛ حيث إن الصائم في رمضان لا يرى حوله إلا صائمين مثله، فإن خرج إلى السوق وجد الناس فيه صيامًا، وإن دخل البيت وجد أهله صيامًا، وإن ذهب إلى دراسته أو عمله وجد الناس صيامًا.. وهكذا، فيشعر بمشاركة الجميع له في إمساكه؛ فيكون ذلك عونًا له، ومنسيًا له ما قد يجده من المشقة؛ ولذلك نجد المسلمين الذين يدركهم رمضان في بلاد كافرة دفعتهم الضرورة للذهاب إليها، إما لمرض أو لغيره، نجدهم يعانون مشقة ظاهرة في صيام رمضان؛ لأن المجتمع من حولهم مفطرون، يأكلون ويشربون، وهم مضطرون لمخالطتهم.
إذن، فشعور الصائم بأن الناس من حوله يشاركونه عبادته، يخفف عليه أمر الصوم، ويعينه على تحمله بيسر وسهولة.
ومن هنا كانت عناية الإسلام وفق العودة بإصلاح المجتمعات عناية كبيرة، فالفساد بصفته حوادث فردية، لا مناص من وقوعه في المجتمع، وقد وقع شيء من تلك الحوادث الفردية في مجتمع الصحابة الأطهار، فكان هناك مَن سَرَق، ومَن شرب الخمر، ومَن زنا.. فهذا الأمر لابد من وقوعه، لكن الذي لا يصح أن يقع في المجتمع المسلم هو: أن تعلن المنكرات ويجاهر بها؛ فيتلوث المجتمع العام، ويصبح من العسير على الفرد الذي يريد طريق الخير أن يهتدي؛ لأن المجتمع يضغط عليه، ويثنيه عن غايته.
فتربية المجتمع من مقاصد الإسلام، والصوم من وسائل ذلك، وأثره في ذلك المجال واضح، ولعل من مظاهر ذلك- إضافة إلى ما سبق- أنك تجد صغار السن في المجتمع يصومون، وتجد أهل الفسق يستترون بالعصيان، وترى الكفار لا يعلنون الأكل والشرب.