"ناشطٌ من زمن الأحزاب" يعلّق على "البقعة"

حالات الشباب الذين يذهبون للإرهاب، ليست بعيدة كلياً عن نماذج أخرى لشباب ينتحرون بإلقاء أنفسهم من فوق بناية، أو يحرقون أنفسهم كما فعل محمد البوعزيزي، في تونس العام 2011، أو يركبون مراكب الهجرة إلى أوروبا وهم يدركون الاحتمالية العالية لموتهم، وغير ذلك.   اضافة اعلان
أمس، كتبت الزميلة رئيسة تحرير "الغد"، جمانة غنيمات، في نهاية مقالها، تعليقاً على حادث البقعة الأخير: "يبقى السؤال الأهم: متى خسرنا الفتى المتهم، فتحول إلى إرهابي؟ في أي غفلة ضاع من عائلته ومجتمعه ومدرسته، ومنا جميعا، فصار يحمل كل هذا الظلام والإرهاب بداخله؟ وعلينا أن نسأل أنفسنا، تالياً: أين النادي والمدرسة والمركز الثقافي والمناهج والعدالة وفرص العمل، والعمل الحزبي؟ ترى لو وجد كل ما سبق، هل خسرناه، فصار وحشا بلا قلب ولا ضمير، اختطف من بيننا خمسة شباب آخرين بعمر الورد؟".
سؤال الزميلة غنيمات يتعلق، بالطبع، بأي حالة تماثل حالة الإرهابي الآتي هذه المرة من البقعة، وسابقاً جاء الإرهابيون من الزرقاء ومعان وإربد وغيرها، فالأمر ليس خاصاً بالمخيمات، بل وبالتأكيد هو حالة تعاني منها مجتمعات كثيرة.
مماثلاً لما ذهبت إليه الزميلة جمانة، يأتي ما تذكره "ناشط" سابق في العمل السياسي والحزبي، تعليقاً على حادث الاعتداء على مكتب مخابرات البقعة، في عين الباشا: "كنتُ أنتمي إلى تنظيم سياسي في نهاية الثمانينيات ومطلع التسعينيات. بدأتُ نشاطي في نهايات مرحلة العمل السري في الأردن، وتركت العمل السياسي عندما أصبح كل شيء علنياً، ولكن بعد أن اتضح لنا زيف كثير من الأمور والناس حولنا، وعدم شعورنا بفرق حقيقي في الحياة السياسية، وبالتوازي مع انهيارات الأيديولوجيا عالمياً، وخيبة الأمل بعد حرب الخليج عام 1991، ثم اتفاقيات أوسلو الفلسطينية الإسرائيلية وما تلاها". ويضيف: "بغض النظر أني تركت "التنظيم" لأسباب مختلفة، فإنّ إحدى الحالات التي تلح عليّ وأتذكرها بمناسبة حادثة البقعة، شاب كان من عائلة ثرية للغاية، من سكّان عمان الغربية، فشل في دراسته في أكثر من مكان، وكان لنا صديق مشترك، وفي لقاء معه ظننت أنّ هذا الشاب يبحث عن هدف لحياته، وفكرت أنّه يجدر محاولة "تنظيمه"، ولكني ترددت بسبب انتقائيتي وميلي للتمهل. وبعد شهور سمعت، بل ورأيت هذا الشاب، وقد تبنى فكرا دينيا خاصا، ليس فيه سياسية، بل يتعلق بحياته الشخصية، من نوع أنّه بات يرفض النوم على السرير، وينام على الأرض، ويلبس ملابس بالغة التواضع، ويقلل طعامه كثيراً. ثم بعد سنوات قليلة، رأيته وقد استمر على تدينه ولكن عاد لمظاهر النعمة والثراء فرأيته في أحد الفنادق، سميناً يلبس بدلة ذات ألوان فضيّة لامعة مع ربطة عنق، وزوجتاه خلفه، وكان لا يزال في عشرينياته أو مطلع ثلاثينياته!".
ويضيف هذا الناشط السابق متذكراً: "ومن أصدقائنا من ذهب للنقيض بعد انهيار العمل السياسي والحزبي والفصائلي مطلع التسعينيات، فزميلة أصبحت تعمل مترجمة مع الجيش الأميركي بعد أن كانت يسارية متمردة، وزميل كان قياديا طلابيا، ذهب أيضاً للتصوّف المشوب بالانعزال قبل أن يهاجر لأنّه "لا يتكيف مع الحياة والناس"، كما قال". ويعود هذا الناشط متذكراً الشاب الأول، ويقول "أتخيل مرّات أني لو لم أتردد لكان يمكن احتواؤه وتأطيره في عمل عقلاني فيه قراءات نظرية، وعملية، ونشاط معين اجتماعي وتوعوي وسياسي، ما يعطيه معنى للحياة، ويقلل من تخبطه".
من المهم الانتباه لحالة الفراغ السياسي والأوضاع التي هي حالة عربية سائدة، لا ننتبه لها إلا عندما تحدث صدمة، ثم نعود لحياتنا بشكل طبيعي، من مثل حرق البوعزيزي نفسه رامياً حجراً في الماء الراكد "اندلعت بعده أنهار"، ولكن من دون تغيير كبير في مجتمعاتنا (ربما كانت تونس مختلفة نسبياً بحدوث تغيير ما فيها فعلا). 
شجعت حكومات عربية وغربية الذهاب لأفغانستان، وشجعت وروجت فكرا أنتج الإرهاب لاحقاً، ومن ذهب هناك إمّا جذبته "الدعاية" أو عانى من سياسات الحكومات ذاتها التي شجعته على الذهاب، وسوقت له فكراً يبعده (إلى حين) عن المطالبة بالمواطنة، والتعددية السياسية، والحرية، وتوهمه بأنّ حالة الانسداد في المسألة الفلسطينية يمكن التعويض عنها بعيداً، ثم جاء من ينقلب على الحكومات ذاتها، لكن في اتجاه مدمر.