هل تترك أميركا منطقتنا لشأنها..؟!

من المفارقات أن الكثير من المعلقين يرون في نية الولايات المتحدة الانسحاب من الشرق الأوسط شيئاً سلبياً. ويحتج هؤلاء بأن الولايات المتحدة هي القوة التي حفظت التوازنات في المنطقة، وضبطت الأطراف وأجبرت الجميع على التأدُّب. والحقيقة أن انسحاب الولايات المتحدة من أي منطقة في العالم لا بد أن يكون خيراً كله، وخاصة منطقتنا -فقط لو أنها تنظِّف خلفها قبل خروجها غير المأسوف عليه، وترتّب الفوضى التي زرعتها هنا على مدى عقود، وتطفئ الحرائق التي حرصت على إشعالها وإبقائها مشتعلة. لو كانت الولايات المتحدة قوة إيجابية في منطقتنا لانعكست وجهة أقدارنا تماماً. أولاً، كانت ستحقق حلاً عادلاً للقضية الفلسطينية التي توتر الناس وتجسد الظلم وتغذي التطرف وتبقينا في منطقة حرب. وهي تمتلك الأدوات: كانت لتفرض تطبيق قرارات الشرعية الدولية –ولو أن تلك القرارات منحت جزءاً كبيراً من فلسطين للغرباء. كانت لتجبر كيان الاحتلال الخارج على كل قانون على إنهاء احتلاله -بمجرد التهديد بوقف تمويله وتسليحه، والكف عن تغطية لاشرعيته وجرائمه في الهيئات الدولية. وتستطيع، إذا لزم الأمر، فرض إنهاء الاحتلال بالوسائل العسكرية، كما فعلت مع العراق والكويت. لكنها تقف ضد العالَم كله في رعاية مشروع احتلالي مُدان وفاقد الشرعية. كان يمكنها أن تجلب الأطراف المتصارعة في المنطقة؛ العرب السنة والإيرانيين الشيعة، مثلاً، وتسهل إقامة الحوار بينهم وتعدهم بالمكاسب إذا تصالحوا؛ وكذلك الأتراك، -وحتى كيان الاحتلال الذي اقترح العرب تطبيعه في المنطقة والتعامل معه فوق الطاولة إذا طبق فقط قرارات الأمم المتحدة وأعاد أقل ربع فلسطين إلى أصحابها. لكنّ الولايات المتحدة لعبت دور المفسد لضمان تفتيت المنطقة وتبعيتها؛ وبيع السلاح للمتصارعين؛ ونهب ثروات الشعوب وسلب إراداتها وتعطيل تقدمها. كان بوسع الولايات المتحدة أن لا تكون الراعي للأنظمة الاستبدادية في المنطقة، وأن لا تحارب كل محاولة لجلب ديمقراطية حقيقية أو ثورة لكرامة أو مشروعاً لتقدم أو لمنح الشعوب المقموعة صوتاً. وبدلاً من ذلك، أظهرَت أميركا –بالأمثلة العملية- مفهومها للحرية والديمقراطية اللتين تريدهما هنا، "على ظهر دباباتها"، في العراق، وليبيا، وسورية، وغيرها. لم يفترق نمط السلوك الأميركي في الشرق الأوسط عن المبدأ الإمبريالي المعروف: "فرِّق تسُد". وكان عملها واضحاً في زرع الفرقة بين الشعوب وحكامها، وبين الشعوب ونفسها. وقد ألبت الدول على جاراتها، وحيّدت بينها المشترك ودعمت المختلف. ورعَت استئساد كيان الاحتلال على منطقة ترفضه وتعاني من عدوانيته، ضد كل مبدأ إنساني أو أخلاقي أو قانوني. جاءت الولايات المتحدة إلى المنطقة غازية لـ"محاربة الإرهاب"، بذريعة ترويض وحش التطرف والإرهاب الذي هجّنته وأطعمته وربّته. وكان رونالد ريغان هو الذي وصف أسلاف "داعش" من القاعدة وطالبان بـ"مقاتلي الحرية". ولا يخفى على أحد كيف رعت أميركا صعود التطرف العنيف في أفغانستان، تطبيقاً لعقيدة بريجنسكي لتهديم السوفيات؟ والآن، يتساءل منتقدو انسحاب أميركا من سورية عما إذا كانت الولايات المتحدة قد هزمت مخلوقها، "داعش"، حقاً، أم أنها أطلقته وابتلتنا به، وأورثتنا وحشاً تقطع له رأساً لينبت غيره على الفور. يقولون أن الولايات المتحدة ستترك الشرق الأوسط ليصبح ملعباً لقوى أخرى: روسيا والصين. ويعني بقاء المنطقة ملعباً دائماً للآخرين أن أهلها لا يمكن إلا أن يكونوا تابعين وهدفاً سهلاً لطالبي الهيمنة والنفوذ. ولا يصعب تعقب صلة ذلك بعمل الولايات المتحدة التي عكفت على جعل منطقتنا مباحة، وشعوبها ضعيفة، متخلفة، متحاربة، منهكة، مستنفدة وفاقدة الهمة. إذا كان لا بُد أن تخضع المنطقة لقوة هيمنة، فلن تكون الصين أسوأ من الولايات المتحدة. فعلى الأقل، تهاجم الصين بالاقتصاد، وربما تُفيد وتستفيد، وليس بالعسكر. كما أن روسيا –إذا كان تاريخ الاتحاد السوفياتي مع المنطقة ليشكل دليلاً- ستكون أفضل من الأميركان تحت أي ظروف. مع ذلك، تقول بعض القراءات أن ترامب ربما يسحب قواته ليفتح حرباً مع إيران، أو ليتيح لتركيا غزو شمال سورية، أو مقدمة لإطلاق دولة الكيان عدواناً على إيران ولبنان وسورية. وبغض النظر عن دقة هذه القراءات، فإن الخبرة تقول أن أميركا لن تترك المنطقة -وليتها تفعل! ويغلب أنها ترى في استقرار منطقتنا وسلامها وازدهارها نقيضاً وجودياً. لن تغادر الأفعى وتخفي أنيابها، وإنما قد تغيّر جلدها فحسب.اضافة اعلان