الثقافة المدنية وسلطة القانون

موفق ملكاوي ما نزال حتى اليوم، نتحسر على انعدام السلوك المدني في الأماكن والفضاءات العامة، ولا يتورع بعضنا عن الجهر بأننا شعب غير متحضر، بينما تزيد الحكومات وسلطات إنفاذ القانون المختلفة من الإرباك في المشهد المرتبك أصلا حين تقرر بكل تأكيد أن المواطن غير ملتزم وغير منضبط. فهل تأخذ تلك التفسيرات أو التعليقات منحى موضوعيا في توصيف المشكلة وأسبابها؟! كوني أمارس مهنة الصحافة منذ ما يزيد على ربع قرن، فقد استطعت أن أطور «وعيا بصريا راصدا» يلتقط الصور بسهولة، وأحيانا يسعفني الحظ في وضع تفسيرات لها. هذا الوعي نما خلال سنوات طويلة في الصحافة، خصوصا في وظيفة «ضبط الجودة»، لذلك أصبحت عيني مدربة على الذهاب إلى الخطأ والخلل والتقاطه قبل أن تقع على الصواب. من هذا المنظور، ما الذي أرصده منذ سنوات؟ مركبات تغلق الشوارع، وينخرط أصحابها في أحاديث غير مكترثة. أخرى تتوقف تماما تحت لافتات صارمة تمنع الوقوف والتوقف. محلات من كل صنف وحجم تحجز أمتارا أمامها، وتحتل 20 % من مساحة الشارع، بحجة امتلاك تلك المساحة لزبائنها، ما يجعل المركبات المارة فيه تصارع لتصل إلى نهايته. كل ذلك يحدث على مرأى من جهات إنفاذ القانون. أرصد كذلك غياب الحرص على نظافة الفضاء العام، فهو فضاء ليس لأحد، ما يجيز لنا تشويهه بجميع أنواع القاذورات، فحتى اليوم لم يخبرنا أحد أن تلك الفضاءات ملكية جماعية، ومن واجبنا، جميعنا، المحافظة عليها. «ثقافة» إطلاق الزوامير من جميع أنواع المركبات، في أي مكان وفي أي توقيت، خصوصا بالقرب من المستشفيات والمدارس. أما سلوكيات قيادة المركبات فهي تنتمي إلى السلوك البشري الذي سبق المدنية واختراع الآلة البخارية، فنحن لا يمكن أن نسمح بمرور مركبة تحاول الدخول لشارع رئيسي من آخر فرعي، بينما نتسابق خلف سيارة الإسعاف لأنها تفتح طريقا مزدحما. وهناك أيضا الشتائم المتبادلة بالآلاف يوميا بين السائقين وبين المشاة، وبين أي أحد في أي مكان! في ظل وضع كهذا، وعشرات الممارسات السلبية الأخرى التي لا مجال لإيرادها هنا، هل من المعقول أن نطلب من المجتمع أن يقوم بتنظيم نفسه وإزالة التشوهات السلوكية والفكرية فيه، بينما تخلد السلطة لنوم عميق إلى أن يحقق المجتمع ذلك، ويقوم سلوكياته؟! لو أخذنا الشركات والمؤسسات التي تمتلك نظاما داخليا مكتوبا يحدد السياسات والإجراءات، والعقوبات العادلة في حال التعدي عليها، لوجدنا أن سلوكيات الموظفين أكثر انضباطا وانسجاما مع ما هو وارد في تلك الأنظمة، بعكس المؤسسات الأخرى التي تفتقر لضوابط واضحة للتصرف الطبيعي أو للاجتهاد. من هنا، يتضح أن أكبر مشكلة نواجهها اليوم، هو أنه ما من أحد يحاول أن يجري دراسة حقيقية للمجتمع الذي نعيش فيه لكي نتعرف على إمكانياته وهشاشاته وجوانب الضعف المانعة للتقدم. لكن المشكلة الأخرى الأكثر خطورة هي «انسحاب» السلطة من فرض السلوك الحضاري المدني بقوة القانون. تحديات عديدة من الممكن أن نقلل من تأثيراتها لو لجأنا إلى القانون ليكون فيصلا فيها، مثل التلوث البيئي والسمعي والبصري، وسلوكيات قيادة المركبات التي نرى أن القانون يذهب فيها نحو المخالفات ذات الخطر الآني، بينما يترك سلوكيات بدائية خطرة تطغى على جميع الممارسات في شوارعنا. إن سطوة القانون وقوته وعدالته هي ما يؤسس للثقافة المجتمعية المتناغمة، وهي ما يؤلف سلوكيات جمعية يتم التوافق عليها بالقبول والرضا والارتياح، وهي ثلاث مراحل لا بد أن تتحقق كل واحدة منها خلال فترة زمنية معينة ترى المجتمعات خلالها ثمار تلك المرحلة؛ فأولا يتم القبول بتلك القوانين، وثانيا يتم الرضا بتطبيقها، وثالثا يتم الارتياح في شيوعها كونها تجلب منافع للمجتمع. لكن ذلك لا يتم إلا من خلال عدالة التطبيق، فالاستثناء، مهما كان هامشه ضيقا، يؤدي إلى ثلم فادح في العدالة، وهو مرشح للاتساع على الدوام إلى أن ينسفها كلها، تماما كما هو حاصل اليوم في مجتمعاتنا. المقال السابق للكاتب  للمزيد من مقالات الكاتب انقر هنااضافة اعلان