"الحارة".. واقعية المهمشين

موفق ملكاوي خلال عطلة نهاية الأسبوع، تسنت لي مشاهدة الفيلم الأردني «الحارة» على منصة «نيتفليكس». قبلها، كنت تابعت سيلا من التعليقات بين مادح ومنتقد للفيلم الذي، على ما يبدو، استطاع أن يخلخل مفاهيم مجتمعية عديدة تواطأ الجميع على اعتبارها حقائق لا تقبل الدحض. ترصد أحداث الفيلم حكايات أشخاص في حارة شعبية تغيب عنها سلطة القانون، فيقترحون لأنفسهم طرقا شتى لكي يستطيعوا مجاراة متطلبات الحياة بكل ما فيها من قسوة. بعضهم اختار أعمالا اعتيادية بسيطة، لا تكاد تؤمن له الكفاف، وآخرون بنوا أحلاما كبيرة، اكتشفوا أن تحقيقها لن يتأتى من تلك الأعمال، فسلكوا طرقا ملتوية أوقعتهم في الجريمة، لكي نرى في نهاية الفيلم كيف استحقوا نهاياتهم. السلوكيات موجودة بكل تناقضاتها من خلال شخصيات متنوعة، ففي الوقت الذي نرى فيه الجريمة بجميع أصنافها، من الغدر والغش والخداع والابتزاز والقتل وفرض الأتاوات، نرى كذلك الأخلاق القويمة التي تنتهجها شخصيات ترضى بواقعها، وتحاول أن تدير حياتها وفق ذلك. خلال الأحداث، نستطيع تمييز بيئتين اثنتين؛ في الأولى تتجلى الحارة التي توقف الزمن عند حدودها، بكل من فيها من مهمشين وعاطلين عن العمل؛ ببيوتها القديمة، ودروبها الضيقة، وآفاقها المسدودة. والثانية هي البيئة التي تظهر ليلا، التي نرى فيها حياة لهو فاخرة، وأموالا تصرف من غير حساب. وما بين البيئتين، نتابع أحلام شباب يحاولون أن يغيروا واقعهم القاسي، وأن يبدلوا من أقدارهم ومستقبلهم. قصة الفيلم ليست خارقة، ولا هي غريبة عن مجتمعنا، فهي تكاد تحدث كل يوم تقريبا، ولكننا غالبا ما نستسلم إلى وهم لذيذ نحاول من خلاله أن نعمد إلى إلباس المثالية بمجتمعات تئن تحت وطأة الفقر والجريمة والخضوع لأمزجة المجرمين وأهوائهم. هذا الواقع تعيشه كثير من المجتمعات في العاصمة عمان والزرقاء وإربد وغيرها، بينما الإصرار على إنكاره يأتي من باب «يوتوبيا» متخيلة، ولا يمكن تحقيقها. الممثلون، نقطة قوة أخرى للفيلم، فلا بد أن ننتبه إلى الأداء، فقد انخرط الممثلون في الجو النفسي للأحداث، واستطاعوا أن يعبروا عن أدوارهم بصدق درامي كبير، كاشفين عن إمكانيات هائلة. منذر رياحنة، ميساء عبدالهادي، نادرة عمران، نديم ريماوي، عماد عزمي، بركة رحماني، وغيرهم، أدوا بقوة استطاع المخرج استثمارها وتوظيفها لخدمة الرسالة الكلية للفيلم. الكاميرا جاءت ذكية، واستطاعت أن تبني عالمين متوازيين في الوجود نفسه، ويتقاطعان من خلال شخصيات تنتقل بينهما، وهما عالم الحارة بكل ما فيه من تناقضات، وعالم الليل في عمان الغربية، الذي جاء كما لو أنه الحلم الذي يبحث عنه شباب الحارة، فحتى الأجنحة الفندقية جاء اسمها «بارادايس»، بكل ما يحمله الاسم من رغبة في الانعتاق من القيود التي تفرضها البيئة الأم. هذا الأمر يقودنا، بالضرورة، إلى الإخراج، وهو، ربما، أكثر عناصر الفيلم حضورا وإبهارا، فقد استطاع المبدع باسل غندور، وهو كاتب النص أيضا، أن يبني بهدوء، الحدث المتصاعد، وأن ينثر حبكات فرعية كثيرة في سيرورة الحبكة الرئيسية، وأن يحقق ميزة الإثارة. وخلافا لغالبية الأعمال الدرامية الأردنية، نستطيع أن نميز حوارا ينزع إلى أن يكون واقعيا وحقيقيا، وليس انفعاليا مبالغا فيه، أو تراتبيا بحسب الدور. الحوار في الفيلم جاء من خلال الحاجة إلى تصعيد الحدث الدرامي، وليس ملئا للوقت وفائضا عن الحاجة، وهو ما منح مزيدا من الصدقية للأحداث. قصة الفيلم، وكما أسلفت، عادية جدا، وهي تحدث بشكل شبه يومي في بيئات أردنية لا تحظى بحضور قوي لجهات إنفاذ القانون، لذلك تفرض الجريمة نفسها على المجتمع، ويزدهر عمل فارضي الأتاوات. أما اللغة المستخدمة، والتي ظهرت فيها عبارات وشتائم، ورغم أنني أميل إلى أن أكون محافظا في استخدامات اللغة الدرامية، إلا أن ذلك لا يمنع من الاعتراف بأن هذه اللغة مستخدمة في جميع البيئات اليوم، وبين الجنسين، لذلك ليس من الموضوعية إنكارها، ومحاولة نسف الفيلم بسبب استخدامها. برأيي؛ الفيلم استثنائي بالنسبة للدراما الأردنية، وهو يؤشر بوضوح إلى عناصر القوة المتوفرة لدينا، والتي تحتاج إلى الدعم والمؤازرة، كما يؤشر إلى نبوغ المخرج باسل غندور وإمكانياته الكبيرة. المقال السابق للكاتب  اضافة اعلان