العرب ولغتهم.. ضفاف واسعة!

موفق ملكاوي في أحيان كثيرة أستخدم لغة عربية سليمة لتوصيف حالات معينة، وغالبا ما أكون دقيقا في استخدام المفردة، فأنا ممن يعون فلسفة اللغة وحساسيتها، إضافة إلى معرفتي بالفروقات بين المعاني المعجمية، والأخرى التي اكتسبت معاني اصطلاحية صبغتها على امتداد عقود طويلة. لكن بعضهم راجعني في اللغة أكثر من مرة، وقد أخذ علي استخدام بعض المفردات في سياقات معينة. بالنسبة لي، فأنا أحفظ درسي العربي جيدا، فأنا ابن هذه اللغة الفسيحة التي تعلقت بها في كل يوم وساعة ودقيقة، حتى أصبحت مجنونها. لكنني لن تراودني الخيلاء فأقول: “.. لآتٍ بما لم تأتِ منه الأوائلُ”، فحروفنا معدودةٌ، لكننا نؤمن بنحت المفردات، وضمها إلى هذه اللغة الفذة. من هذا المنطلق بالذات، لا بد أن نشير إلى أمر غاية في الأهمية، وهو أنه لولا اجتهادات بعضهم، والتي عدها آخرون تجاوزات وفلتات، لما كان لهذه اللغة أن تتطور وأن تمتلك حساسيتها الجديدة التي استخدمها درويش في وصف اللامبالاة الإنسانية الغامرة بالحس والإشباع وتخمة التجربة حين قال: “لا شيء يرجعني من بعيدي إلى نخلتي: لا السلام ولا الحرب. لا شيء يدخلني في كتاب الأناجيل”. قبله كان المتنبي يقف حائرا بين يدي القصيدة، فيقرر أنه لا شيء يعجبه، أو أنه لا مكان للإعجاب في جسد تملؤه الندوب، وقد يكون جسدا شخصيا، أو معيارا ليأس أمّة ضالة، حين قال: “عيد بأيّ حال عدت يا عيدُ”. “تجاوزات” المتنبي لم تقف عند معارضة المعيار النفسي أو الظرفي لأمّة تعلن عن قداستها في احتفال ديني، وعن تفردها عن غيرها فيه. صوته ها هنا لا يقف عند المعارضة المعيارية أو الظرفية أو القيمية والدينية، فبالنسبة لابن سقاء الكوفة لا بد له من أن يعلن حضورا متفردا أيضا، ليسجل استحقاقا وعلامة شخصية فارقة من خلال إضفاء صيغة المؤنث على ما لا يجوز تأنيثه لغة، ولكنها في النهاية تطاوعه من خلال “الاستدخال”، وعن طريق اتساع المعنى والمبنى، ليجترح تأنيثا جديدا لم يكن قبله، وما كان ينبغي لأحد أن يقترحه قبله. هذه هي اللغة العربية التي أفهمها؛ لغة سليمة مطواعة لمن يمتلك زمامها في الابتكار، لا لغة “شاطر ومشطور وبينهما كامخ”، فهذه لغة أموات لا يريدون أن يسيروا في تطوير لغتهم ومعارفهم خلال عصر حديث يتطلب التطوير في كل شيء. ونحن، كعرب، لم نعلن موتنا بعد، فما يزال في جعبتنا حدائق كثيرة سنهديها لغة لكل العالم. أحب لغة خالد الكركي الذي أهدانا وداعة الشهداء وحماستهم وتخيلاتهم الكثيرة، منذ دم جعفر الطيار إلى اليوم، فلم يغادر أكاديميته وهو يستعير شاعرية مملوءة اليقين. أحب خالد محادين الذي أكد أنه “ليس مكانا ما نحتاج إليه”، ومضى يرنم “أهديك ما أهديك..”، وأحب حيدر محمود منذ “عفاه الصفا”، مرورا بحرده من “عبدون” الجاحد، وحبيب الزيودي الذي صفت اللغة على يديه مثل شجن بهي ينطلق من “ناي الراعي”. هؤلاء جميعهم آبائي الذين تتلمذت على يديهم، وغيرهم مئات النحاتين الجميلين، الذين طرقوا على اللغة ومفرداتها، وجعلوها أكثر انسيابية ومرونة وصفاء. وهذه هي لغتي التي ما أزال أتزنر بها منذ نصف قرن، وفي كل يوم أكتشف أنني أجهل أكثر مما أعلم. ترى هل الجهل في الحب يردي المتيم أم يفتح له بابا للحيلة يغب منه هيامه وقلقه؟ تلك معضلة حين تشترك في أمر يتنازعه العارف والجاهل والحيران، فإلى أي القوائم سوف يؤوب بك الرشد!؟ المقال السابق للكاتب  للمزيد من مقالات الكاتب انقر هنااضافة اعلان