برودة إسكندنافية في الدم

نادر رنتيسي كم حلمتُ بالاستقالة من الوظيفة والتفرّغ لتقليم أظافر قدميّ، والانتباه أكثر إلى التمارين الرياضية التي تجريها جارتي مع كلبها. كم راودني حلمُ ألا أستفيق على صوت المنبّه، وأن أستمرّ بالنوم حتى يوقظني نداء الطبيعة، وكم تمنّيتُ أن أجد وظيفة أخرى لإصبعي المخصص لبصمة الكشف على الحضور والانصراف.. كأن أنقر به على الطاولة حين لا أنتظر شيئاً. أجبرتني الوظيفة على أن أقول صباح الخير لمن لا يستحقها، وأن أكثر من الابتسام مثل مضيفة طيران، وأن أنتظر نهاية الشهر وأخشى بدايته. كم تمنّيتُ أن يأتيني إشعار بنكي بأنه قد تمّت إضافة عشرة آلاف دولار إلى حسابي، وأنا منشغل في إيجاد الفروق الطفيفة بين الثلاثاء والأربعاء. كنتُ أظنُّ أن هذا يتوفر فقط للذين ورثوا الملاعق الذهبية، أو الذين امتلكوا موهبة الاختصار مع مرونة في القفز، لكنّي عرفتُ متأخراً أن الأمر أسهل من قلي البيض، فكلّ ما سأحتاجه كثير من الوهم.. أتوهم أني خفيف الدم، وصاحب كاريزما ربّانية، ولدي ثقافة أوسع من مكتبة الإسكندرية، مع ضرورة ألا يمرّ حدث على الكوكب إلا ولي فيه رأي أو رأيان.. ثمّ أضغط على زرّ “فيديو لايف” مع ابتسامة لا تنقصها البلاهة. صحيح أنّ كرامتي ستُهدر، ودمي سيبرد، وخصوصيتي ستصبح مثل باب حديقة، لكن هذا أقل ثمن ممكن دفعه مقابل عشرة آلاف دولار شهرية، وربّما أكثر، فلديّ “كل ما تحتاجونه”، يمكن أن أتنبأ بنهاية الحرب والكفة التي ستميل عليها، باعتباري ناجيا من ثلاث حروب في الخليج العربي، كما أني أملك تفسيراً اقتصادياً غير مطروق لقوة الدينار الكويتي وتفوقه “الغريب” على الدولار، ولا يمكن إغفال مواهبي الرياضية التي تجعلني أتنبأ ببطل الدوري الإسباني قبل بدئه بثلاثة أسابيع، ليس هذا فقط، بل يمكنني عزيزي المشاهد أن أبسّط لكَ التطورات الجمالية لأنف كاريس بشار. إن اكتشفتُ أن الإقبال قد قلّ على القناة، يمكن أن أظهر مع زوجتي في بثّ مباشر وهي تعدُّ وصفة غير تقليدية لـ”الشكشوكة”، أو أن أطلب منها تقليد كبرياء فيروز على “هدير البوسطة”، ولا بأس بقليل من الكذب، فتخبركم بأن المنديل المعلّق على الحائط خلفنا أهدته أمّ كلثوم لجدّتها. يمكن أن يستمرّ البث المباشر، حتى نصل إلى المشاهد رقم مليون، لكن هذا سيتطلب هدراً إضافياً في الكرامة، وبرودة إسكندنافية في الدم، وخلع باب الحديقة.. أقصد الخصوصية، وربّما أضطرُّ للهذيان حتى “أعلى سعر”. سأروي التفاصيل المملة لخلاف عبد الحليم ونزار قبّاني، مع بهار هندي، كأني عامل السنترال الذي أوصل الخطّ بينهما، وسأكشف السبب الثالث غير المتوقع للوفاة الغامضة للسيّدة سعاد حسني البابا المعروفة بـ”سعاد حسني”، كأني المحقق الإنجليزي الذي توارى عن الأنظار في ظروف مريبة. لن أكرّر نفسي، فلديّ ما هو جديد ومدهش، يمكنني ارتداء الروب الأبيض، وفي الخلفية صندوق صيدلية المنزل، لأحكي عن خمسة علاجات غير متوقعة لسرطان البروستات، مع معلومة إضافية تبدو كأنها هدية البرنامج عن طريقة التخلص وللأبد من شَعر الساقين ومن السُّكّري أيضاً.. مع رجاء خال من الكرامة بتفعيل الجَرَسْ! .. وسأفقد كثيراً من الدم، لكني سأنتظر نهاية الشهر، من دون أن أخشى بدايته. المقال السابق للكاتب  للمزيد من مقالات الكاتب انقر هنااضافة اعلان