حصل في الأردن ومع هاني الخصاونة بالذات

أقوم منذ أشهر وبتكليف من مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية ببحث معمق في التاريخ الشفوي المتعلق بالمرحوم الملك حُسين. ويتطلب البحث إجراء لقاءات مع أردنيين مروا في حياتهم بتجارب مباشرة مع الملك المرحوم.اضافة اعلان
تقتضي متطلبات منهج البحث التعرف بتوسع على الشخصيات التي أقابلها، من خلال إتاحة الفرصة للاسترسال ما أمكن.
من بين هذه المقابلات، فإن خمس جلسات طويلة مع الدكتور هاني الخصاونة شكلت بالنسبة لي محطات في "متعة البحث": حيث دفء الحديث، والذاكرة الحية، وأخلاقيات الراوي وخاصة عند ذكر الآخرين، أيا كانوا أصدقاء أو خصوماً، وسعة التجربة وتعدد ساحاتها ومهامها... إلخ.
لن أتناول في هذا المقال ما يتعلق بمهمة البحث الرئيسية (تجربة الدكتور هاني مع الملك) بانتظار أن تجد مكانها في سياق البحث النهائي، وسأقتصر هنا على محطات في فترة فتوة وشباب الدكتور هاني، فهي تشكل مقطعا في الاجتماع السياسي الأردني، يعكس جانبا من خصوصية بلدنا. تعالوا نقرأ:
طالب المدرسة هاني، ينضم إلى حزب البعث العربي الاشتراكي في مطلع الخمسينيات، وفي السنة الدراسية الأخيرة، تندلع المظاهرات التي أصبحت شهيرة في التاريخ السياسي الأردني ضد حلف بغداد في نهاية العام 1955، فيعتقل هاني مع عشرات من أبناء الأردن في ضفتيه، ويرسلون إلى سجن الجفر الصحراوي.
يقلق هاني على دراسته، إلى صبيحة يوم الثاني من آذار عام 1956، عندما يذهب باكراً لإحضار إفطاره، فيبلغه جندي من قبيلة السرحان (لا ينسى الدكتور هاني أن يدعو له بالتوفيق) بخبر طرد "كلوب باشا"، لكن الجندي يستحلفه أن لا ينقل الخبر عنه. يعود هاني إلى مهجعه، يبلغ رفاقه الذين لا يصدقون، وينتشر الخبر محاطاً بالشكوك، إلى أن يؤكده لهم فؤاد نصار الزعيم الشيوعي المعتقل بجوارهم ، وقد كانت له (بحسب الخصاونة) مكانة مميزة عند قائد السجن والحراس مكنته من الوصول إلى الخبر.
يتقرر الإفراج عن المعتقلين، يخرج هاني، ويعود بسرعة إلى المدرسة وينجح في الامتحانات النهائية. وبعد زمن يحصل معه ما يلي:
رئيس الوزراء هزاع المجالي، المؤيد البارز لحلف بغداد، الذي أطاحت المظاهرات به وبحكومته، يتوسط لإرسال هاني للدراسة في بغداد، وهو يعرف هويته السياسية البعثية المعارضة لهزاع وللحلف، ويرسل معه رسالة إلى وزير التربية العراقي (في عهد المملكة العراقية) يطلب منه قبول هاني، فيقبله الوزير.
يواصل هاني نشاطه البعثي في بغداد، وتحصل ثورة 1958 التي تطيح بالملكية، ويؤيدها هاني العضو في حزب البعث الذي شارك بالثورة، إلى أن تقوم حركة داخلية تبعد البعث وتمكن الشيوعيين العراقيين وأنصارهم من السلطة، فيعتقل هاني لفترة، ثم يضطر لمغادرة العراق إلى القاهرة، وهناك يختلف بعثيو الأردن المقربين من عبد الناصر مع قيادتهم، فيلتحق بالجناح الأردني بقيادة عبدالله الريماوي.
يعود هاني إلى بلده، فيجد والده قد رُمّج من الخدمة في الأمن العام، لأسباب بعضها يتعلق بابنه البعثي، ويتنقل بين أعمال مؤقتة في الكرك وبلدة يعبد الفلسطينية، ثم تقرر حكومة وصفي التل تحديث طاقم وزارة الخارجية، فيتقدم الخصاونة، ويتدخل قريبه أحد قادة الضباط الأحرار السابقين، الضابط الشجاع قاسم الناصر، لدى محمد رسول كيلاني، الذي كان معجبا بصلابة المعتقل الناصر أثناء التحقيق، فيتحول الإعجاب إلى صداقة (وهي ملاحظة أكدتها تجارب معتقلين آخرين تكونت بينهم وبين الكيلاني علاقة صداقة واحترام).
تستمر المفارقات في حياة الخصاونة العملية، وخاصة بعد عمله في الديوان، وهناك تفاصيل ستجد مكانها في البحث النهائي، لكن الخصاونة يكلف في مطلع السبعينيات بمهمة سفير الأردن في سورية، ويرتبط بعلاقة حميمية وثقة مع الرئيس حافظ الأسد، ثم مع الرئيس صدام حسين، ثم يناله قدر من "الزعل" بسبب دفاعه مع آخرين عن الجندي أحمد الدقامسة، وعن ناهض حتر في إحدى قضاياه.
الدكتور هاني الخصاونة اليوم وقد بلغ الثمانين، يروي قصته بهدوء، ومن دون استغراب لأي من تفاصيلها.
لا يتسع المجال هنا لتحليل الحالة، غير أنها مع مئات القصص المماثلة، تفتح أمامنا ضرورة التفكير بخصوصية الاجتماع السياسي في بلدنا.
أطال الله عمر الدكتور هاني ومتعه بالصحة والعافية.