"داعب الكلب"

في واحدة من تجليات هوليود العبقرية، جاء فيلم Wag the Dog، الذي قام ببطولته روبرت دي نيرو وداستن هوفمان، وأخرجه باري ليفنسون، وهو مأخوذ عن رواية "بطل أميركي"، للروائي لاري بينهارت.

اضافة اعلان


نشرت الرواية في 1993، لتستلهم سيرة الرئيس الأميركي جورج بوش الأب، وتحيل حربه في "عاصفة الصحراء" إلى مؤامرة خالصة، هدفها إعادة انتخابه لولاية ثانية، بينما تم إطلاق الفيلم في العام 1997، وقبل أسابيع قليلة من فضيحة "كلينتون لوينسكي" المعروفة.

 

يدور الفيلم حول تحرش الرئيس الأميركي بفتاة قاصر داخل المكتب البيضاوي، قبيل الانتخابات الرئاسية بقليل، ما يهدد بهزيمته في تلك الانتخابات، ليتفتق "عقل عبقري" عن اختراع حرب مزعومة مع ألبانيا، يديرها أحد المخرجين من داخل الأستوديو، مشفوعة بالمواجهات العسكرية المزيفة، وأغنية تطلق الروح الوطنية الأميركية.


يخترع المخرج، وبالتواطؤ مع الرئاسة ووكالة المخابرات المركزية حربا مزعومة، تتم إدارتها بذكاء، فيغرق الإعلام بالحرب المزيفة، متناسيا فضيحة الرئيس، ويمضي الفيلم، الذي تشير فيه مفردة "الكلب" إلى الإعلام الذي يتم التلاعب به، ليكشف عن ألاعيب السياسة، وكيفية إشغال الإعلام عن القضايا المهمة، كما يكشف عن ضحالة فكر الأميركيين الذين تديرهم وتوجههم الميديا.


 لكن التاريخ يأبى إلا أن يصادق على فرضية الرواية والفيلم، فما هي إلا أشهر قليلة على فضيحة كلينتون، وفيما هو غارق في تحقيقين؛ لوينسكي، و"وايت ووترغيت"، حتى نرى العقلية الأميركية تتفتق من جديد، وتخترع حربا في السودان "قصف مصنع الشفاء للأدوية" في صيف العام 1998، بعملية أسمتها "الوصول النهائي"، مدعية أن المصنع ينتج أسلحة كيماوية لمصلحة زعيم القاعدة آنذاك أسامة بن لادن. وبعدها بأشهر قليلة، وعندما كان الرأي العام الأميركي منشغلا بمحاكمة عزل كلينتون، توجهت الأنظار نحو العراق، الذي اختاره الرئيس في عملية عدوانية استمرت أربعة أيام أسماها "ثعلب الصحراء"، بحجة عدم امتثال العراق للقرارات الأممية.


في جميع حروبها العبثية المدمرة، تلجأ واشنطن إلى الإعلام، فتجبره إلى الانجرار وراء قصصها الخرافية، ليتم تعبئة الرأي العام بها، وذلك من خلال "خطة" قديمة جديدة في الإعلام والعلاقات العامة والدعاية، تعرف باسم "التدوير"، وهي استراتيجية تتضمن حملات إعلامية تقدم تفسيرات متحيزة لحدث ما بقصد التأثير في الرأي العام.


إن معنى التحيز هنا يدخل من باب التلفيق والتضليل، ولعل الإدارة الأميركية واحدة من "أنجح" الإدارات السياسية في العالم بهذا المجال. لذلك، فإن تراجع البيت الأبيض، قبل أيام، عن تصريحات الرئيس جو بايدن حول رؤيته صور أطفال إسرائيليين "قطعت رؤوسهم على أيدي عناصر حماس"، لا قيمة حقيقية له، فالأثر المطلوب تحقق من التصريح، خصوصا مع آلاف ساعات البث على القنوات العالمية الكثيرة المتحيزة، والتي نقلت تصريح الرئيس إلى جميع قارات العالم.


تأكيد الإدارة الأميركية أن التصريحات بنيت على مزاعم مسؤولين صهاينة وتقارير إعلامية، وأن بايدن والمسؤولين الأميركيين "لم يروا هذه الصور"، لن تمحو تأكيد الرئيس أن على الأميركيين رؤية ما يحدث، وأنه "لم يتخيل رؤية إرهابيين يقطعون رؤوس أطفال".


أحيانا، التراجع عن التصريح لن يحقق إنصافا للمستهدف منه، وهو الأمر الذي جرى في هذه الحادثة بالذات. وأحيانا أيضا، يكون التصريح والتراجع عنه مخططا لهما منذ البداية، فالغوغاء لن تنتبه إلى التراجع الحاصل في التصريحات، وتبقى تتبنى التأكيدات الأولية، وتنطلق منها في إدانة المتهم، في سيكولوجية أقرب إلى القطيع.


إنه الإعلام وتأثيراته الكبيرة على الشعوب التي تقاد وهي مغمضة العينين، وتجبر على تبني قضايا تعتبرها أخلاقية، بينما هي مختلقة ومزيفة، وفيها من التزوير والتلفيق والتضليل ما لا يمكن تصوره.


اليوم، يقع العالم كله، تقريبا، ضحية للإعلام غير النزيه والمتحيز، والذي يشترك بفاعلية كبيرة في العدوان على غزة وأهلها من خلال استراتيجيات "التدوير"، وقمع صوت الضحية، وحصار المعلومات، ومصادرة الحقيقة. يشترك في هذا الأمر عدد هائل من المسؤولين الغربيين، والمؤسسات الإعلامية الأهم عالميا، وأيضا مواقع التواصل الاجتماعي التي تصادر صوت الفلسطينيين والعرب والشرفاء، لمصلحة سيادة رواية واحدة فقط، هي رواية الجلاد.

 

للمزيد من مقالات الكاتب انقر هنا