الغرب وغزة... جذور الفكر العنصري

رغم انكشافه منذ قرون طويلة، يصر الغرب الاستعماري على إسقاط ورقة التوت الأخيرة عن عنصريته التي تستقر عميقا في وجدانه وأفكاره التي يحاول إخفاءها بأحاديث مستهلكة عن مبادئ الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والنساء والأطفال.

اضافة اعلان


ما نراه اليوم في غزة من تطهير عرقي بمذابح مروعة ومحاولات تهجير قسري ينفذه الكيان العنصري بمشاركة ومساعدة فاعلة من الولايات المتحدة ودول أوروبية، ليس استثناء في تاريخ المستعمر الأبيض الذي يحتقر الأجناس الأخرى، ويضعها في مرتبة أدنى من البشر.


مع انطلاق الحرب الروسية الأوكرانية، وبدء تدفق اللاجئين الأوكرانيين باتجاه أوروبا، ارتفعت العديد من الأصوات السياسية والإعلامية الغربية، ترحب باللاجئين، وتلفت إلى لون بشرتهم التي تختلف تماما عن لون بشرة اللاجئين من الشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا، ومؤكدة "أنهم يشبهوننا".


التعبيرات العنصرية تلك لم تكن "سقطة" في لحظة وجدانية عاطفية، بل تستند إلى مبادئ راسخة في الفكر الغربي يمتد لقرون، ساهم في وضعها فلاسفة ومنظرون اعتبروا الجنس غير الأبيض الأوروبي، في مرتبة دون البشر.


وفي حين أن العنصرية نشأت في بعض الثقافات الغربية القديمة؛ اليونانية والرومانية، إلا أنها تأصلت على يد فلاسفة العصر الحديث الذين أطروا لها فكريا، خصوصا في مجال الدراسات الإنسانية والاجتماعية، فمثلا، في الفلسفة، اعتبروا أن ما هو مهم فعلا يخرج من عند الغرب فقط، لذلك همشوا وقللوا كثيرا من شأن الفلسفات الهندية والصينية والعربية، حتى أنهم اخترعوا ما عرف باسم "الفلسفة القارية"، وهي مجموعات الفكر التي نشأت وتتطور في القارة الأوروبية.


هيغل، أبو المثالية الألمانية، كان واحدا من أكبر أصحاب النزعات العنصرية، وقد أثرت فلسفته كثيرا فيمن أتى بعده من المفكرين والفلاسفة، خصوصا تنظيراته في "المركزية الأوروبية" و"العرق". ولا يتورع هيغل عن طروحات عنصرية متحيزة، تتمثل "الإمبريالية الثقافية" أو "التفوق العنصري"، ومقولاته عن أن التقليد المسيحي الغربي هو الأكثر وعيا بذاته.


من مفهوم "العقل في التاريخ"، ينطلق في بناء تصوره عن الأمم غير الأوروبية، خصوصا أفريقيا، والتي يعتبرها "المكان السابق على الوعي، والواقع خارج التاريخ"، و"بلد الطفولة الأبدية"، و"المجردة من كل عقل"، مستفيضا برسم صور وحشية للإنسان الأفريقي تجرده من سماته الإنسانية، وتخرجه عن سياق البشر.


ولا يتورع هيغل عن طرح تبريرات عديدة للاستعمار والتوسع الإمبريالي، ويعتبره نعمة للشعوب التي تقع تحت نيره، فهي عاجزة عن حكم نفسها، كما هي عاجزة عن إدارة مواردها، لذلك، ومن باب الرحمة بشمال أفريقيا، يدعو فرنسا لاستعمارها وإدارتها.


الهنود الحمر يظهرون بصورة أكثر تشويها عند هيغل، فهو يدّعي أنهم بمرتبة دونية؛ عقلية وجسدية، مؤسسا لتقسيم الأجناس إلى "متفوقة" و"أدنى" على أسس بيولوجية وجغرافية، حتى أصبحت نظريته حول "العرق" ملهمة للعنصرية النازية والشمولية الفاشية.


لم يحدْ إيمانويل كانط عن المسار العنصري، إذ لجأ إلى تصنيف لـ"العرق"، وعلى رأسه الأبيض، ثم الهنود، فالزنوج، وأخيرا سكان أميركا الأصليون.


تنظيرات هيغل وكانط، نرى تعبيراتها واضحة تماما في الأدب الاستعماري الذي ساد في فترة صعود الشعور الأوروبي بالفرادة، والذي كشفت عنه "دراسات ما الاستعمار".

 

نرى ذلك في "الشيخ والبحر" لإرنست همنغواي، والعجوز سانتييغو الذي يتم تأطيره بالإنسان الفاشل، والذي لا يستطيع المحافظة على صيده، كما لو أنه حكم على الكوبيين بعدم قدرتهم على إدارة موارد بلدهم. ونرى ذلك في "قلب الظلام" لجوزيب كونراد. ورغم أن هناك خلافا بين الدارسين حول مقاصد الرواية، إلا أن الإسهاب في إضفاء جميع الصفات غير البشرية وغير الإنسانية على سكان الكونغو، تضعها بلا شك في مصاف الأدب الاستعماري الذي اجتهد كثيرا لتأطير الشعوب، كوسيلة للهيمنة، من خلال ترسيخ صورة دونية عن الشعوب المقموعة المستعمرة.


الغرب الذي يجتهد اليوم بشيطنة العالم العربي، ومحاولة إخضاعه إلى تصنيف جديد على هرم "العرق"، يمتلك تاريخا طويلا من التنظير العنصري، والممارسة الفعلية على أرض الواقع. إنه الغرب نفسه الذي اختطف أطفال أفريقيا وباعهم عبيدا للأبيض، وهو نفسه الذي مارس التطهير العرقي والإبادة الجماعية لسكان أميركا الأصليين من الهنود الحمر. كذلك، ينبغي أن لا ننسى أنه الغرب نفسه الذي تقاسم العالم، وأخضعه لأبشع استعمار. يجب أن لا ننسى جذور هذا الغرب المتوحش.

 

للمزيد من مقالات الكاتب انقر هنا