عبد الرحيم كافيه ولجان التحكيم العتيدة!

موفق ملكاوي الشاب الذي دخل ورشتي التدريبية للمرة الأولى، اختار مقعدا إلى يميني، وظل مطرقا في ورقه فترة طويلة، كما لو أنه ذاهل عن كل ما حوله. بين فترة وأخرى، كان يقلب نظره في الموجودين، ثم يعود لإمساك قلمه، ويكتب من دون مبالاة كبيرة فوق الدفتر أمامه. لا بد أن تسترعي انتباهك ابتسامته الدائمة التي يرسمها فوق شفتيه. لا تسمّها ابتسامة، فهي أقرب إلى قناع يلاقي به العالم الخارجي بهدوء من يستمتع برحلة ريفية رائقة، بينما في داخله حياة أخرى أكثر صخبا، وتمتلك قوة قادرة على اجتياح أي شيء أمامها. حين أخذ الميكروفون وتحدث للمرة الأولى لاقتراح «حبكة» لقصة ما، بدا أن تفكيره ليس من النوع التقليدي، فقد نقل حبكة القصة إلى مستوى آخر، وقام بإجراء عملية تركيب معقدة للحدث، ليخرج في النهاية بمفهوم أن «الأمور في حقيقتها لا تكون واضحة من مجرد مشهد، حتى لو كان في منتهى الوضوح». هو عبد الرحيم كافيه، الشاب في مقتبل العشرينيات، والذي عرف عن نفسه أنه يكتب الشعر، وأنه يستمتع كثيرا بهذه المهمة. في نهاية أحد أيام الورشة، وقف ليقرأ بعض أشعاره بزهو كبير، متمثلا كل مفردة فيها. لاحظت أنه اختار قصيدة النثر شكلا لكتاباته، ولم يكن ذلك عسيرا على التفسير، فالشاب الذي تزدحم في رأسه الهواجس، وتضطرم في داخله الأشياء وضدها، يريد لغة لا يحدها إطار، ولا يؤثر في عنفوانها قيد، ليطلقها حارة وغاضبة كما مطالع الثورات. هكذا بدأت علاقتي بالشاب، الذي أظن أنه يمتلك الموهبة الكاملة، كما يمتلك الوقت الكافي لإنضاج تجربته وصقلها لكي يكون شاعرا مؤثرا. قبل أيام قليلة، قرأت في صفحته على فيسبوك تجربته المحزنة مع لجنة تحكيم لإحدى المسابقات، وقد وضع فيديو مع الإدراج يبين نوع النقاش الذي دار بينه وبين أحد المحكمين. كان هناك ظلم واضح من قبل المحكم، وعدم وضوح في الرؤية لديه، إضافة إلى عدم امتلاك أدوات نقدية حقيقية في النظر إلى النص، ما جعله يقفز إلى تبني شعارات عريضة من دون أن يكون لها تماس مباشر بقصيدة الشاب الذي حاول أن يشرح خطأ وجهة نظر المحكم، ولكن عبثا، إذ لم يتم السماح له بالكلام؟ وتم صرفه من على المنصة! بإمكاننا أن ننظر إلى حادثة عبد الرحيم مع هذا المحكم على أنها الأنموذج السائد للتعامل مع الأصوات الجديدة التي تظهر على الساحة بين فترة وأخرى، فالنقد مات، ولم يعد هناك نقاد حقيقيون قادرون على أن يهبطوا من برجهم العاجي لكي يقرأوا لأسماء ليس لها بريق، وإنما يريدون أسماء بنجومية جاهزة ليتسلقوا عليها. هذه معضلة حقيقية، فمع موت المنبر، وتلاشي الصحافة الثقافية الجادة والرصينة، تحول الفضاء الإبداعي ناحية مواقع التواصل الاجتماعي التي خلطت كل شيء، وقلبته رأسا على عقب، سواء في الكتابة الإبداعية ذاتها، أو في معايير قراءتها وتحليلها ونقدها، خصوصا مع شيوع التعابير الجاهزة «المبسترة» التي يتم التعليق بها على المنشورات، من أمثال: «جميل، دام نبضك، كتبت فأبدعت..»، إلى آخر هذه القائمة من التهويمات التي لا تؤدي إلى أي معنى. كل هذا الكلام هو مجرد هراء يخفي خلفه عدم النضج وعدم القدرة على الاشتباك المعرفي الحقيقي مع النص، والعجز عن محاولة استخراج عدم الوضوح منه، وما يمكن يخفيه من ألغام في داخله. نعرف أن البطريركية متغلغلة منذ عقود في دوائر الأدب والإبداع، لكن المعبرين عنها في الزمن السابق كانوا أدباء ونقادا حقيقيين، أما اليوم، فيبدو أننا نعيش زمن الخفة والرداءة، و»الوجبات الجاهزة» التي أفرزتها مواقع التواصل الاجتماعي واشتباكاتها السطحية مع النصوص المختلفة، لذلك لا عجب أن تتم تنحية الشباب من على المنصات، لكي يظل أنصاف النقاد على مقاعدهم آمنين. لا تهتم يا عبد الرحيم، وامض في طريقك راشدا وواثقا يا صديقي. المقال السابق للكاتب اضافة اعلان