كيف نكون غير متواطئين؟

موفق ملكاوي في مقارنة يائسة بين ما انطوى عليه مفهوم “التدوين” القديم، والذي نقل إلينا تواريخ غابرة بقطعية مريبة، وبين خبرتنا الحديثة التي كشفت لنا القدرة البشرية الهائلة على التزوير حتى في حال وجود شواهد بصرية ثابتة أو متحركة، تظهر ضرورة أن نكون أكثر حرصا على محاكمة جميع المرويات؛ قديمها وجديدها، للاطمئنان إلى أننا نضع أقدامنا في أقرب نقطة من الحقيقة. في خبرتنا الحديثة كبشر خلال فترة ما بعد الثورة الصناعية وتشعباتها، وعصر التنوير وإفرازاته في الفكر المجرد والتطبيقي، بتنا أقل تمسكا بمقولة “التاريخ يكتبه المنتصرون،”، فهي لا تشتمل على دراية كافية بمتطلبات تنفيذ أجندات “التحيز”، في مقابل “التهميش”، واستراتيجيات “النفي” لمواجهة ما هو مثبت. هذه مهمات لا يتكفل بها منتصرون يعانون جنون العظمة بسلوك أخرق يعتمد فرد العضلات، بل مؤثرون ومستفيدون يكونون متوارين في كثير من الأحيان. كتابة التاريخ الموازي، والتواطؤ على مروياته، وصولا إلى استتباب سرديته النهائية، ليست بالعملية السهلة التي ينفذها مجموعة من البلهاء أو الهواة، بل هي فعل واع يمر عبر ميكانيكية متوالية يلعب فيها مؤثرون كثر، وتتحد فيها العقول مدفوعة بمكاسب نهائية متوقعة، لذلك يتم توظيف جهود وأموال ومقدرات كبيرة في سبيل تحقيقها. من هذا الفهم البسيط لوظيفة التدوين وسيرورته، وصولا إلى استتباب السردية لحادثة ما، يمكننا أن نقرر أنه ما من رواية وصلتنا ينبغي أن تتخذ صفة القطعية والحقيقة، ما لم تمر بمراحل التشكيك والتشريح، ودراسة القوى الفاعلة والمؤثرة في حينها، وعلاقتها بالنتيجة والهدف النهائي للمخرجات. من دون ذلك سيظل إجماعنا على أي حادثة بمثابة تواطؤ جمعي يحتكم إلى أسس بدائية غير منقحة، ومسلمات أيديولوجية لا تركن إلى العلم والحقيقة. لكن، وفي الجانب الآخر من المسألة، من قال إن الوصول إلى الحقيقة هو، فعلا، هدف إنساني أصيل تسعى السيرورة البشرية إلى تحقيقه؟ تؤكد الدراسات الإنسانية أن الاستسلام إلى “الوهم اللذيذ”، أو إلى تبني المرويات المتواطؤ عليها من دون تمحيص حقيقتها، هو أمر أقرب إلى طبيعة الإنسان العادي، وهو النوع الذي يشكل غالبية ساحقة من البشر، خصوصا أن الذين يمكن لهم أن يشكلوا انزياحات في التفكير والوعي الجمعيين هم أقلية لا يشكلون أي نسبة تذكر في تعداد البشرية. تبني السردية المستتبة هو فعل تم تأطيره غالبا بكثير من العلامات الفارقة، خصوصا ما يتعلق منها بـ”الخير” و”الانتماء”، ما يعني ان الخروج عليها هو فعل مذموم وخارجي، وسيواجه بالمعارضة، كونه يصطدم بالوجدان العام. ولكن، من أجل أن نمتلك القدرة على تشريح المرويات التاريخية، لا بد قبل ذلك من توفر الحد المطلوب من الوعي والموضوعية، إضافة إلى المنهجية الواضحة لإخضاع نصوص الدراسة لها. غير أن مسألة الوعي هي الأساس الذي تقوم عليه العملية برمتها، ومن هذا المنطلق يمكن لنا تمييز ثلاثة أنواع من الوعي الفردي والمجتمعي، وهي: الوعي الواعي، كونه ينطلق من معرفة اللحظة التاريخية وسياقاتها الماضوية، ويحاول بناء منظومة وفق تشريحاتها، والوعي الشقي، وهو الذي يعرف اللحظة التاريخية وسياقاتها، غير أنه يوظفها لمصلحة السلطة، أيا كان نوعها، والوعي الراكد، وهو مستتب من دون أي قلق، ويمكن أن يكون مستلبا أو متواطئا (لأسباب غير ثورية)، أو خانعا من غير قناعة، إنما بفعل الرضوخ للقمع. وهذا هو السلوك الأكثر وجودا لدينا، وهو ما يؤطر جميع معارفنا ويمنحها الحدود للحركة. لذلك، فالحرية شرط أساسي لممارسة التفكير النقدي الذي تتأسس عليه المعرفة بما هي إدراك ووعي وفهم للحقائق، ومن دون ذلك سنبقى ندور في فلك تقديس السرديات غير المقدسة، وتكثير “الينبغيات” التي تؤطر مساحة العقل، وتحد من عمليات البحث والتفكير، لمصلحة “الوضع القائم”، والذي سيسود حتما ما لم نلجأ إلى ثورة حقيقية في التفكير ومحاكمة كل شيء راكد. أكثر ما يثير السخرية والاستغراب في آن، هو الحديث عن تطوير التعليم في بلداننا، بينما يعلم أي دارس مبتدئ أن التعليم لا يمكن أن يتقدم في الوقت الذي يتم فيه فرض قيود صارمة على العقل وحدود التفكير. صحيح أننا نعيش في عصر العلم، ولكن لنعترف أننا نتشبث بأذيال الأمم التي تنتج المعرفة، فيما لا نسهم نحن إلا بخراب فكري هائل، وبالضغط على موارد الكوكب، وهي الموارد التي تستحقها أمم منتجة وفاعلة، وللأسف نحن لسنا منها. المقال السابق للكاتب  للمزيد من مقالات الكاتب انقر هنااضافة اعلان