"هندسة" العقل العربي

في العام 1996، وبعد أعوام قليلة من تدمير العراق، استطاعت قناة "الجزيرة القطرية" أن تفرض الكيان الصهيوني ورموزه على البيت العربي. ورغم الايجابيات الكثيرة التي رافقت بث القناة الفضائية، خاصة ما يتعلق منها برفع مستوى حرية الإعلام وإشاعة المعلومة، إلا أنها ارتكبت خطيئة كبيرة من باب "الرأي والرأي الآخر"، تمثلت في إضفاء الشرعية على "حق" رموز الكيان العنصري ومناصريه في طرح وجهة نظرهم في كثير من السياقات التي سارت فيها القضية الفلسطينية، وصولا إلى دفاعهم عن حق الصهاينة في سفك الدم العربي من أجل ترسيخ الاحتلال.

اضافة اعلان


ما بدأته "الجزيرة"، بحسن نية أو بقصدية، انتبهت إليه جهات أخرى، دشنت العديد من المحطات الفضائية والإذاعية باللغة العربية، ليجد العربي نفسه محاصرا بالأصوات الصهيونية و"مظلومياتها" على مدار الساعة، وليجد أنه بدأ يردد النغمة ذاتها التي تبتكرها خزانات الأفكار الصهيونية، وتعيد هندستها لاستهداف ما كان يسمى "ثوابت الأمة"، وصولا إلى زعزعتها وهدمها.


مصطلحات "الصراع العربي الإسرائيلي"، "العملية السلمية"، "الاستيطان غير الشرعي"، والذي يدلل على أن ثمة استيطانا شرعيا، وغيرها الكثير، باتت مصطلحات يومية يتم تداولها عبر الإعلام ولغة الشارع. وفي ظل خطاب إعلامي عربي مشتت ومتشرذم، وعدم اتفاق على ضبط المصطلحات وتوحيدها، وجد الخطاب الصهيوني الإمبريالي أرضا خصبة للعمل، فبدأ بتفكيك منظومة المقاومة الثقافية التي تراجعت في حضورها الاجتماعي لتبقى عاملة ضمن أطر نخبوية ضيقة فحسب.


بعد أقل من ثلاثين عاما على انطلاق بث قناة الجزيرة، نجد العالم العربي اليوم مجتمعات مفككة لا يكاد يربط بينها رابط، بينما يتغذى الإعلام منها ويغذيها أيضا بخطاب كراهية وشحن طائفي، ما يزيد من الهوة بينها.


الهندسة الحديثة للعقل العربي ما كانت لتنجح لولا جملة من الظروف التي تمت تهيئتها قبل وخلال عملية الهندسة، وهي: إضعاف التعليم وربطه بالتحصيل الأكاديمي وليس بالمعرفة والبحث العلمي، ومصادرة الحريات الحقيقية المنتجة واستبدالها بنوع من الحرية الاجتماعية الزائفة، ودعم صعود حركات دينية متطرفة تم منحها "تسهيلات" لاقتطاع أراضي الدول العربية وممارسة اقتراحها في الحكم وتفكيك تلك الدول، وأخيرا تصنيع خطاب خاص موجه للعالم العربي، وتعظيم الاختلافات بين المجتمعات.


اليوم، يمكن لمباراة كرة قدم بين فريقين عربيين، أن تشعل الإعلام الاجتماعي والتقليدي، أكثر بكثير من مجازر الإبادة الجماعية التي يرتكبها الصهاينة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ولكن الأخطر من ذلك أن هندسة العقل العربي أوجدت بيننا أشخاصا عربا يدافعون عما يرونه "حقا إسرائيليا" في الدفاع عن أرضهم وأمنهم، ولا يستحون من أن يجهروا بأن المقاومة هي المعتدي، وبالتالي هي من يتوجب أن يوجه إليها اللوم في ما آلت إليه الأمور في جرائم الصهاينة اليوم.


إنه مثال ساطع على الاختراق الكبير الذي حققته الإمبريالية وربيبتها الصهيونية، بعد أن نجحت في إيجاد، ليس فقط مناخا متقبلا لوجودها الشاذ، بل أيضا مناصرين ومدافعين عن حقها في قتلنا لكي يستتب لها الأمن والوجود.


نجح العالم الإمبريالي في التأثير على هويتنا القومية من خلال زعزعة الثوابت، والتشكيك فيها وبجدواها. ولكن هذا الأمر نجح فقط لأننا ساعدناه في مهمته، وأخذنا على عاتقنا أكثر من نصف عمله.

 

للمزيد من مقالات الكاتب انقر هنا