وسط البلد

كلما اخذتني قدماي كالعادة إلى وسط البلد في عمان تهزني ذكريات وحنين لجبال عمان القريبة من وسطها (القلعة، اللويبدة، الدوار الاول، الجوفة، جبل النظيف، الاشرفية، المهاجرين، وراس العين)، واستذكر حارات لعبنا فيها، ومارسنا في ازقتها شقاوة الطفولة من خلال ألعاب الطفولة التي كانت غالبا ما تزعج الجيران، وخاصة عندما يتعلق الأمر بلعب الكرة التي كنا نمارسها في مساحات لا تتعدى مترين.

اضافة اعلان


وبالقدر الذي يفرحني كلما تجولت في وسط عمان وجود الناس، وكثافة المارة، وتعدد محال تجارية نشأت حديثا في مناطق مختلفة وسط البلد، فإنني في الوقت عينه أحزن خوفا من غياب معالم كانت حاضرة في ذاكرة عمان، وأتألم أكثر لغياب العناية المثلى بالمباني القديمة التي شارف عمرها على 120 عاما وربما يزيد، واتخوف من غياب هذا الأثر لاحقا.


أعشق التجوال بشكل مستمر في شوارع عمان القديمة، وأحب التنقل بين زقاق وآخر، اتمشى في المكان، اتنفس الأثر، استعيد عبق الماضي، وفي الوقت عينه استشعر أثر الحاضر، فأنا العماني أعشق عمان حد الهيام، وأطير فرحا عندما أجول في ازقتها، وأمر على بعض المعارف والأصدقاء الذين نشأت معهم علاقات تواصل بفعل التردد والزيارة الدائمة للمكان، استعيد معهم ذكريات وأحداث، وكذلك نسعد سويا بإعادة الحياة لوسط عمان من خلال زيادة اعداد المترددين عليه.


شخصيا لا اشعر بالضيق ابدا من تطور وسط بعاصمتنا، وربما هذا التطور المتصاعد ساهم فيه وجود محال شعبية باتت ذات سمعة عربية وعالمية، حتى أن بعضها بات مقصدا لزوار عرب وأجانب، كما أن حراك الناس من مختلف الجنسيات والمستويات بالتمشي في المكان، والتجوال في معالمه ساهم في رفع نسب المترددين، وهو أمر إيجابي، فهذا الحراك رفع منسوب البهجة والفرح والألق، وأضفى على المكان جمالية مختلفة، فأنا من عشاق التطور والتقدم والحفاظ على معالم البلد دون تهميش الأثر والذاكرة.


خطر لي وأنا أتجول هناك بأهمية إطلاق مشروع شعبي ثقافي، تراثي، حضاري، تاريخي عنوانه الحفاظ على المكان بكل تفاصيله، وتقبل أي تطور يحدث دون أن يؤثر ذلك على ذاكرة المكان وتاريخ الإنسان، فنحن نحتاج بقوة للإبقاء على إرث المكان شامخا ومعلما لأجيال قادمة، فقد تعرفنا من خلال المدرج الروماني وجبل القلعة والملفوف وعين غزال وسبيل الحوريات وغيرهما على اثر حضارات مرت على عمان، (رومانيون، واغريقيون، وعمونيون، وأمويون، وعباسيون، وفاطميون، وعثمانيون)، وبالأثر فانه يحق لنا التمسك بما خلفه الأجداد والاباء من عمران، والحفاظ على شكل العمارة الذي بدأ في عمان، وتطور يوما بعد يوم، دون إغفال التطور والارتقاء للأمام.


صحيح أن أثر الأسلاف ما يزال قائما، والبيوت (بعضها على اقل تقدير)، والأماكن قائمة، ولكني اثرت قرع الجرس قبل فوات الاوان، والعمل على وضع رؤية واقعية سياحية حضارية تفتح باب التطور وتحفظ لعمان عبق تاريخها، وللعمانيين أمثالي الحفاظ على ذاكرتنا الإنسانية دون اندثار.


مخطئ من يعتقد أن اواسط العواصم في العالم يختلف عن وسط عاصمتنا عمان (طبعا اتحدث عن عواصم ممتدة بالتاريخ وليس عواصم بنيت حديثا على الطراز العالمي) فمن يمر بوسط دمشق وبيروت والقاهرة وبغداد والقدس واثينا وغيرهما، يعرف يقينا ان الحفاظ على الاثر والتاريخ يتطلب رؤية متطورة تساهم في التطور دون اغفال التاريخ واثره، ونحن أبناء عمان يحق لنا ان نطالب بان يستمر التطور في وسط عاصمتنا، وان تبقى الأرجل تدب هناك، وأيضا الحفاظ على بيوتها القديمة وعمرانها الذي ما يزال قائما.


اليوم ما زلت استطيع اصطحاب اصدقاء من الخارج واولادي وابنتي اللذين باتوا شبابا، لأقول لهم من هنا المكان الفلاني، وهنا المكان العلاني، وهذا الأمر الذي أريد الحفاظ عليه حتى يتمكن اولادي من نقل الأثر لأبنائهم في المستقبل، دون التأثير على ما شاهدته من تطور مبهج في وسط عماننا.

 

للمزيد من مقالات الكاتب انقر هنا