تونس بين مطرقة صندوق النقد وسندان العزلة الدولية

كاتب العمود توماس فريدمان في العام 2015 - (المصدر)
كاتب العمود توماس فريدمان في العام 2015 - (المصدر)

ماهر لطيف - (معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى) 12/12/2022

اضافة اعلان

في ظل غياب الدعم الدولي القوي، تُرك التونسيون وحدهم لمواجهة الأزمات السياسية والاقتصادية المتفاقمة. وتُواجه تونس منذ شهور شُحّا متزايدًا في الإمدادات لبعض المواد الأساسية، كالسُكّر والسميد والزيت والقهوة، إضافة إلى المحروقات والأدوية.

ويترافق ذلك مع ارتفاع الأسعار بشكل جُنوني يكاد يكون يوميًا، مما أثّر على القدرة الشرائية وعلى معيشة المواطن التونسي الذّي أصبح غير قادر حتى على تحمل كلفة نفقاته اليومية.
* * *
يتوجه التونسيون إلى صناديق الاقتراع للإدلاء بأصواتهم في الانتخابات التشريعية. ولكن، مهما تكن النتائج التي تسفر عنها الانتخابات، فإن التونسيين سيظلون يواجهون مستقبلاً غامضًا في نواح عديدة. وفي حين ينقسم التونسيون حول مدى تأثير الإجراءات التي اتخذها الرئيس، قيس سعيد، في الحكم، إلا أن التحديات الداخلية التي يواجهها سعيد، إلى جانب الازمة الاقتصادية العامة، سيكون من شأنهما أن يعزلا تونس بشكل متزايد على المسرح الدبلوماسي.


كانت وتيرة الأحداث في تونس تتسارع منذ خُروجها عن المسار الديمقراطي ودخولها تحت حكم الإجراءات الاستثنائية التّي أقرّها الرئيس قيس سعيد في الخامس والعشرين من تموز (يوليو) 2021، تبعها قرار سعيد تجميد عمل البرلمان وإعفاء الحكومة وتعطيل العمل بدستور العام 2014، مروراً بإلغاء الهيئة الوقتية لمُراقبة دستورية القوانين والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد. وبطبيعة الحال، وضعت تلك الإجراءات تونس في مسار دستوري مختلف.


كما قام سعيد أيضا بحلّ وإعادة تشكيل المجلس الأعلى للقضاء والهيئة العليا للانتخابات، وصولاً إلى كتابة دستور جديد، والاستفتاء عليه بنسبة لم تتجاوز ثلثي الناخبين -في مُؤشر واضح على تراجع شعبية الرئيس وتآكل الديمقراطية.


وقد أحدثت هذه الإجراءات انقسامًا حادًا داخل المجتمع التونسي بين مُؤيّد يرى فيها تصحيحًا لمسار الثورة وتحسينًا لأوضاع البلاد ومعيشة المواطن، ومُعارضًا يعتبرها خروجًا عن المسار الديمقراطي وانقلابًا واضحًا على الدستور وعودة إلى حالة ما قبل العام 2011.


أزمة مالية حادة


رُبّما يختلف التونسيون حول طبيعة الأزمة السياسية التّي تعصف بتونس وأسبابها وتداعياتها القريبة والبعيدة، إلا أنّ أحدًا منهم لن يختلف حول حقيقة الوضع الاقتصادي المتدهور والكارثي الذي وصلت إليه البلاد.


يزداد المشهد التونسي ضبابية وقتامة يوًما بعد يوم، خُصوصًا مع غياب أي بوادر انفراج في الأفق القريب، وفشل كلّ من الرئيس قيس سعيد ورئيسة حكومته، نجلاء بودن، في إخراج البلاد من أزمتها الراهنة وإنعاش الاقتصاد، حيث تُواجه تونس منذ شهور شُحّا متزايدًا في التزود ببعض المواد الأساسية، كالسُكّر والسميد والزيت والقهوة، إضافة إلى المحروقات والأدوية، مع ارتفاع الأسعار بشكل جُنوني يكاد يكون يوميًا، مما أثّر على القدرة الشرائية وعلى معيشة المواطن التونسي الذّي أصبح غير قادر حتى على تحمل كلفة نفقاته اليومية.

وفي واقع الأمر، باتت المنظومة المالية في تونس اليوم مُهدّدة بالانهيار في ظلّ بلوغ البنك المركزي والمنظومة المالية المحلية طاقتها القُصوى، وعدم قدرتها مستقبلاً على توفير ما من شأنه أن يضمن مستحقات الشعب.


بعد أشهر طويلة ومضنية من المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، أعلنت الحكومة التونسية عن توصلها إلى اتفاق مبدئي مع الصندوق من الناحية التقنية، مدته 48 شهرًا، مقابل الحصول على مبلغ قدره 1.9 مليار دولار لدعم السياسات الاقتصادية في تونس.

ومن الجدير بالذكر أن الاتفاق قد شمل عدة شروط فرضها الصندوق على تونس لضمان الحصول على قرض الصندوق، منها تخفيض المصاريف واحتوائها من خلال الإلغاء التدريجي للدعم، وزيادة العدالة الضريبية، والاعتناء بالدعم الاجتماعي للفئات الهشة، وتعويض الأسر ضعيفة الدخل عن تداعيات ارتفاع الأسعار، ودعم الحكم الرشيد والشفافية في القطاع العام، وتعزيز الإصلاحات الهيكلية.

وفي مقابل هذه الإصلاحات يضطلع المجتمع الدولي بدور مهم في تيسير تنفيذ البرنامج من خلال التعجيل بإتاحة التمويل اللازم لضمان نجاح السلطات في جهودها على صعيد السياسات والإصلاحات.


يحمل الاتفاق بين صندوق النقد وتونس عدة جوانب إيجابية، منها أن تونس لم تطلب مبلغًا محددًا من الصندوق، بل قدمت مطلبًا لتمويل برنامج إصلاحي مدته 3 سنوات، إضافة إلى شرط عدم التوجه نحو بيع المؤسسات العمومية، وإنما التوجه فقط نحو الإصلاح وإعادة الهيكلة.

يكما يعد هذا الاتفاق أيضًا خطوة جيدة ومهمة -على الأقل على المدى القصير- لإنقاذ اقتصاد البلاد وطمأنة شركاء تونس وتجديد ثقتهم، حيث أن التوقيع مع صندوق النقد سيفتح المجال أمام الاقتراض من دول أخرى اشترطت الاتفاق أولاً مع صندوق النقد الدولي.


ومع ذلك، قد لا يكون الاتفاق مع صندوق النقد كافيًا لإنقاذ النظام المالي التونسي، فعند الاطلاع على ميزانية الدولة لسنة 2022، نفهم أن تحصيل مبلغ 1.9 مليار دولار من صندوق النقد الدولي لا يكفي لسد العجز، وهو تمويل ضئيل جدًا ولن يكون كافيًا لتغطية نفقات الدولة لسنة 2022 والمُقدّرة بنحو 7 مليارات دولار، ولن يُسرّع الانخراط الفعلي في عملية إنقاذ الاقتصاد، خاصّة وأنّ الأمور تعقدت كثيرًا مع اندلاع الحرب في أوكرانيا، التّي جعلت أرقام الميزانية التونسية قديمة عفا عليها الزمن، وصار من الضروري إعادة النظر فيها.


أما على مستوى الرأي العام، فمع إعلان الحكومة عن إلغاء الدعم على المواد الاستهلاكية كأحد شروط الصندوق، ستتأثّر فئات واسعة من التونسيين بارتفاع نسبة التضخم والفقر، ممّا يفتح الباب على مصراعيه أمام صعود غليان داخلي يُمهّد لانفجار اجتماعي كبير.

وبالتالي لن يكون الاتفاق مع صندوق النقد حلاً لإنعاش الاقتصاد الميت إكلينيكيا، وإنما سيكون ترقيعيًا فقط، خاصة وأنه موجه نحو الاستهلاك وليس الاستثمار.

موقف دولي غامض

تثير التغييرات التي حدثت في نظام الحكم في تونس والمرتبطة بالأزمة المالية التي تمر بها أيضًا التساؤل حول كيفية استجابة الدول الأخرى، فبعد الإجراءات الاستثنائية التي اتخذها سعيد في تموز (يوليو) 2021، تأرجحت العلاقات الأميركية -التونسية ما بين بيانات دبلوماسية مُتتالية ظاهرها الدعوة إلى "استعادة المسار الديمقراطي" والتهديد أحيانًا بخفض المساعدات.


وفي نهاية المطاف، اتسم رد الفعل الأميركي بنوع من القبول للمسار الحالي، مع الحرص على التذكير بتوفير المزيد من المشاركة للمواطنين التونسيين.

وقد دفعت سياسة قيس سعيد حينها إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، إلى التصعيد والردّ عليها، حيث أوقفت واشنطن قرضًا بمليارات الدولارات من صندوق النقد الدولي، بالإضافة إلى إيقاف منحة للبنية التحتية تقدر بنحو 500 مليون دولار مُقدّمة من مؤسسة "تحدّي الألفية" إلى تونس.

كما أحجمت وزارة الخارجية عن إرسال بعض أموال الدعم العسكري لتونس، وهدّد الكونغرس بخفض أو إلغاء المُساعدة الاقتصادية لتونس ما لم تتحسّن الظروف.

وعلاوة على ذلك، هناك هواجس ومخاوف أميركية وغربية من أنّ الخيارات التي ينتهجها سعيد قد تُعمّق من حدة الأزمة السياسية وربما تؤدي إلى اضطرابات وانفجار اجتماعي كبير لا يُمكن لأحد التكهّن بتداعياته.


بينما وجدت قرارات قيس سعيد صدى كبيرًا لدى الإعلام الأميركي ومراكز الأبحاث من حيث الاهتمام والنقد، كان الموقف الرسمي الأميركي أكثر حذرًا في التعامل مع الرئيس التونسي، حيث لم يتجاوز حاجز التنديد وإصدار بيانات دبلوماسية باردة.

وقد أثار هذا البرود الأميركي في التعامل مع الملف التونسي الكثير من التساؤلات حول كيفية تعاطي إدارة بايدن مع الأزمة في ظل النفوذ الكبير الذي تتمتع به واشنطن في الداخل التونسي (سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا)، والذي يتيح لها اتخاذ قرارات أكثر صرامة بعيدًا عن الدبلوماسية الباهتة.


بعد مرور شهر على انتهاء الاستفتاء الدستوري، شهد الموقف الأميركي تحولاً كبيرًا نحو تونس، وقد تعزز هذا التحوّل من خلال الزيارات التّي قام بها كلّ من نواب في الكونغرس ومجلس النواب الأميركيين، وزيارة مساعدة وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى، بربرا ليف.

وتبدو هذه الزيارات لمسؤولين أميركيين رفيعي المُستوى بمثابة الفُرصة الأخيرة للرئيس قيس سعيد لتعديل مساره والوفاء بالتزاماته السياسية لأنّه خرج عن الحدّ الأدنى الديمقراطي. وفي تقديري أنّ هذه البرغماتية الأميركية لا تتعلّق فقط بالالتزام الديمقراطي، بل وتتعلق أيضًا بالخيارات الأمنية والاستراتيجية.


يبرر الجانب الأميركي موقفه بعدم وجود احتجاجات شعبية كبيرة ضد الإجراءات التي اتخذها قيس سعيد، وأنه ما يزال يملك المبادرة السياسية الكاملة في البلد، حيث لا توجد ضغوط داخلية قوية عليه أو زعامات سياسية توازي نفوذه وسلطته. كما أن الطريق بات سالكًا أمامه لاتخاذ أي إجراء يريده.

وكان ما سهل الأمر أن المعارضة متشرذمة ومنقسمة إيديولوجيا، والأحزاب الكبرى في حالة عجز وتعاني من أزمة ثقة مع مكوناتها، كما يعاني المجتمع المدني من ضعف كبير هو الآخر.


لعل الجانب الأميركي محق في أن الشارع التونسي منقسم وغير متوحد، وأن المظاهرات مناسباتية وغير دائمة ولا تقلق النظام، لكنه يغفل عن تعامل السلطة القاسي مع المتظاهرين والقبضة الأمنية التي يبطش بها قيس سعيد بمعارضيه، وإخافتهم بالاعتقالات والتحقيقات القضائية وإحالتهم على القضاء العسكري.

وقد أدت هذه الإجراءات القمعية وحالة الخوف المنتشرة إلى إسكات جميع الأصوات المعارضة وجعلت من الصعب على المواطنين العاديين النزول إلى الشارع للاحتجاج على الإجراءات غير الديمقراطية.


وفي المقابل، تدرك السلطة في تونس أن التصريحات والزيارات الأميركية المتتالية تكشف عن حاجة واشنطن إلى الحليف التونسي بالنظر إلى الموقع الجيوستراتيجي المُهم لتونس، وأنّ واشنطن لا تريد بطريقة أو بأخرى أن تخرج تونس عن دائرة النفوذ الأميركي.

وبما أن الإدارة الأميركية تنتهج البرغماتية والواقعة في سياستها الداخلية أو الخارجية، فإنّها مُستعدة لمساعدة تونس اقتصاديًا والتغاضي عمّا يفعله الرئيس حتّى لا تحدث الفوضى فيها ولا ترتمي في أحضان الأعداء الجُدد (بالتحديد روسيا والصين).


يكشف هذا كلّه عن المكانة المُهمّة التي تحتلها تونس في المشروع الأميركي كقاطرة تربط بين قارة أفريقيا وقارة أوروبا. فهل ستنجح السياسة الخارجية التونسية في كسر العُزلة الدولية المفروضة عليها بعد الإجراءات الاستثنائية التّي أقرّها الرئيس قيس سعيد؟ وربما الأهم من ذلك أنه يبقى أن نرى كيف سيؤثر المسار الذي اتخذه سعيد على الأزمات الاقتصادية والسياسية في تونس، حيث ستضع قراراته القادمة مصير المواطنين التونسيين على المحك.

*ماهر لطيف: باحث تونسي متخصص في الشأن التونسي والسياسة الدولية والعلاقات الإستراتيجية. يكتب لطيف في العديد من الصحف والمواقع الإخبارية مثل صحيفة رأي اليوم اللندنية، الوكالة العربية للأخبار، جريدة النهار اللبنانية، موقع نداء الوطن الشبكة الفلسطينية للصحافة.

اقرأ أيضا في ترجمات:

الدين والسياسة (1)

الدين وفكرة صامويل هنتنغتون عن “صراع الحضارات”: مقاربة نقدية