آفي شلايم* - (أوريان 21) 1 آب (أغسطس) 2023

مقتطف من كتاب آفي شلايم.. "ثلاثة عوالم، مذكرات عربي يهودي" (2-2)

1692285134619555900
فلسطينيون يغادرون منازلهم بسبب العنف الصهيوني، 1948 - (أرشيفية)

كان لهذه الأطروحة (أطروحة صامويل هنتنغتون عن "صراع الحضارات")، التي فقدت اليوم جزءًا كبيرًا من مصداقيتها، تأثيرٌ كبير على مقاربة بعض المؤرخين الصهاينة للصراع العربي الإسرائيلي.

اضافة اعلان

 

وقد اعتبر هؤلاء المؤرخون أن الصراع متجذر في العقيدة الإسلامية وكراهية اليهود، وهم يتبنون منظور هنتنغتون بتأكيدهم البعد الديني والروحي للصراع (1).

 

وأحد هؤلاء المؤرخين هو مارتن غيلبرت، المؤرخ اليهودي البريطاني والصهيوني المتعصب، الذي كرس آخر كتاب له لسرد تاريخ اليهود في البلاد الإسلامية.

 

وهو كتاب جريء لكونه يغطي 1.400 عام من التاريخ اليهودي العربي، منذ ظهور الإسلام في القرن السابع الميلادي وحتى يومنا هذا، لكنه ليس سوى عرض لكراهية وعداء وعنف المسلمين إزاء اليهود.

 

ووفق غيلبرت، تمثل معاداة السامية القوة الأساسية والضمنية التي شكلت أساس العلاقات بين المسلمين واليهود. وبتكديس القصص المروعة الواحدة فوق الأخرى، يرسم غيلبرت صورة مضللة. كان غيلبرت مهيأ نفسيًا لرؤية معاداة السامية في كل مكان، وهو ما نتج عنه تشويه لتاريخ العلاقات بين اليهود والمسلمين لخدمة البرنامج السياسي الصهيوني (2).

 

ولعل العامل المشترك بين هنتنغتون وهؤلاء المؤرخين الصهاينة الآخرين هو العقلية الاستشراقي التي تستند إلى صور نمطية عن الشرق. وهم يفسرون عداء المسلمين للغرب، وبالتالي عداءهم لإسرائيل، بأنه نتاج حتمي لديانتهم وثقافتهم وليس لظروف تاريخية معيّنة، ويرون أن "صراع الحضارات" سيكون بين الحضارة اليهودية المسيحية والحضارة الإسلامية.

 

وتقود النظرة الماهوية لما يعنيه أن يكون الشخص مسلمًا إلى وصفٍ يختزل رؤية المسلمين للعالم الخارجي عمومًا ولليهود خصوصًا. وهذا النوع من التحليلات لا يمت بصلة إلى التاريخ، لأنه يختزل تنوع العالم الإسلامي في كتلة صماء من الجهل والغضب، ويتجاهل الظلم الحقيقي، غير المتوهم، الذي يشعر به المسلمون تجاه القوى الغربية وإسرائيل.


لهذه الرؤية القائمة على المركزية الأوروبية والساذجة للعالم ما يقابلها في رؤية بعض النشطاء الإسلاميين الراديكاليين. ويرى الإسلاميون المتشددون أن تاريخ العرب والمسلمين يقوم على صراع جوهري بين الدين والثقافة. واليهود بالنسبة إليهم لم يكونوا يومًا جزءًا من نسيج المجتمع العربي، وإنما كانوا دخلاء، وطالما شكلوا عنصرًا معاديًا، بل وطابورًا خامسًا في المجتمع الإسلامي. كما يعتبرون دولة إسرائيل كيانًا غير شرعي زرعته بينهم القوى الاستعمارية بهدف تشتيت صفوفهم وإضعافهم.

 

وبالتالي، فإن استخدام كل من الصهاينة والإسلاميين لتاريخ العلاقات بين اليهود والمسلمين انتقائي، يخدم برامجهم العلمانية أو الدينية على حد سواء. ويدعو كلا المعسكرين إلى التشكيك في العدو والتعبئة المستمرة في صراعهما من أجل الهيمنة والسيطرة.

 

ولا يتماشى تاريخ عائلتي مع أي من السرديتين، الصهيونية والإسلامية، لتجربة اليهود تحت الحكم الإسلامي. وإذا تعمقنا فيه، فسنجد أنه يخالف منطلقات أطروحة "صراع الحضارات" التي تشكل أساس هاتين السرديتين. وبناءً عليه، فإن سيرة عائلتي ليست مثيرة للاهتمام في حد ذاتها فحسب، وإنما تنطوي على عناصر من شأنها أن تساعدنا على فهم مسار تاريخ الشرق الأوسط الحديث.

 

وبصورةٍ أدق، تُعَد تصحيحًا للسردية الصهيونية التي ترى أن المسلمين والصهاينة غير قادرين غريزيًا على العيش معًا بسلام، وأنه كُتِبَ عليهم العيش في صراعٍ إلى أبد الآبدين.


ثلث سكان بغداد

 

الصهيونية حركة أوروبية نشأت في القرن التاسع عشر، قدمت حلا لليهود الذين كانوا يعانون من التمييز والاضطهاد في أوروبا بتأسيس دولةٍ لهم في فلسطين.

 

وفي المقابل، كان التسامح الديني سائدًا في العراق منذ القدم، وكان تاريخه الطويل يتسم بتناغمٍ كبير نسبيًا بين طوائف المجتمع المختلفة. لم يكن اليهود وافدين جددًا أو أغرابًا في العراق، ولم يكونوا بلا شك دخلاء.

 

كانوا يعيشون في بابل منذ العام 586 قبل الميلاد، بعد أن هدم الملك نبوخذنصر مملكتهم في القدس ونفاهم. وبعدها بقرون أصبحت بابل المركز الروحي للشتات اليهودي، ومقرًا لاثنتين من أبرز أكاديمياته الدينية، وهما سورا وبومبديتا (الفلوجة حاليًا).

 

وهناك جُمِع تلمود بابل وكُتِبَ القانون اليهودي. هكذا وجد اليهود مستقرهم في بابل قبل مجيء الإسلام في القرن السابع الميلادي.

 

وبعد أن أصبحت العراق بلدًا ذا أغلبية مسلمية، ظل اليهود جزءًا لا يتجزأ من نسيج المجتمع العراقي.

 

ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى، كان اليهود يمثلون ثلث سكان بغداد، ودائمًا ما كانت تلك المدينة توصف بأنها مدينة يهودية.

 

وفي أعقاب الحرب، استمر اليهود في لعب دور كبير في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والأدبية والفكرية في العراق. ولعل هذا الدور، على وجه التحديد، هو ما أجج عداء المسلمين تجاههم مع تصاعد القومية والطائفية.


مورست العديد من أشكال التمييز بحق الأقلية اليهودية في ظل الإمبراطورية العثمانية، لكنها لا تقارَن بما كانوا يتعرضون له في أوروبا المسيحية. في عهد العثمانيين، تمكن اليهود العراقيون من تحسين أوضاعهم بشكلٍ كبير، والاستفادة من اللوائح والأنظمة، وهي الإصلاحات التي جرت في القرن التاسع عشر، حيث أصبح لهم ممثلون في البرلمان العثماني، وهيمنوا على حركة التجارة. وفي ظل مملكة العراق الحديثة التي تكونت من ثلاث ولاياتٍ عثمانية بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية، ظل اليهود أقليةً من بين أقلياتٍ أخرى.

 

أما في أوروبا، فكان يُنظر إليهم باعتبارهم "الآخر"، وبالتالي كانوا يمثلون مشكلة. كانت أوروبا تواجه ما اصطلح أعداء اليهود على تسميته "المسألة اليهودية".

 

وقد قاد "الحل الجذري" الذي توصلت إليه النازية لتلك المسألة إلى إبادة ستة ملايين يهودي أوروبي.

 

وعلى عكس أوروبا، لم يعرف الشرق الأوسط "المسألة اليهودية". كانت معاداة السامية داءً أوروبيا، انتقلت عدواه إلى الشرق الأدنى. لم يكن اليهود العراقيون يعيشون في غيتوهات، ولم يشهدوا القمع والعنف والاضطهاد والتطهير العرقي الذي شهدوه في أوروبا.

 

لم تأتِ تسمية مارك مازوفر لتاريخ القرن العشرين في أوروبا بـ"القارة المظلمة" Dark Continent من فراغ (3). كان يلزم أوروبا وقت أطول بكثير مما لزم العالم العربي لتقبل اليهود كشركاء في الوطن لهم الحقوق نفسها.

 

صحيح أن العراق شهد صعوباتٍ وتوترات، ومذبحةً مؤلمة شهيرة لليهود في حزيران (يونيو) 1941، غير أن الكوزموبوليتانية والتعايش السلمي والتفاعل المثمر كانت السمات المسيطرة على المشهد. ولا يعني هذا أن وضع اليهود في البلدان الإسلامية كان يخلو من بعض المشاكل، لكن جمع كل تلك المسائل تحت مسمى "المسألة اليهودية" سوف يصنع حيرةً والتباسًا.


لم تهاجر عائلتي من العراق إلى إسرائيل بسبب صراع بين الحضارات أو تعصب ديني. ولم ينهَر عالمنا لأننا عجزنا عن التفاهم مع جيراننا المسلمين. كان الدافع الرئيسي لنزوحنا سياسيا، وليس دينيا أو ثقافيا. لقد زُج بنا في الصراع بين الصهيونية والقومية العربية، وهما أيديولوجيتان علمانيتان متصارعتان، وتم إقحامنا عنوةً في النزاع بين اليهود والعرب على فلسطين.

 

وقد نشأ هذا الصراع عشية الحرب العالمية الأولى، واشتد في أعقاب الحرب العالمية الثانية. وفي العام 1948، شارك الجيش العراقي في الحرب العربية ضد دولة إسرائيل حديثة النشأة، وأسفرت هزيمة الجيوش العربية عن رد فعلٍ عنيف ضد اليهود في كامل الوطن العربي.

 

كانت الصهيونية أحد الأسباب الرئيسية لرد الفعل هذا، حيث منحت اليهود قاعدةً إقليمية للمرة الأولى منذ أكثر من ألفي عام. وقد أعطى ذلك الفرصة للمسلمين الأصوليين وأنصار القومية العربية المتعصبين لوضع شركائهم في الوطن من اليهود في خانة العدو الصهيوني الذي يبغضونه، والمطالبة بطردهم. وهكذا، أصبح يُنظر إلى الذين كانوا ذات يوم من أعمدة المجتمع العراقي يومًا بعد يوم كطابور خامس يُخشى وجوده.


لطالما وضع الصهاينة نصب أعينهم هدف استقدام أكبر عدد ممكن من اليهود من جميع أنحاء العالم لبناء الدولة اليهودية.

 

وكان هدفهم منذ البداية تأسيس دولة يهودية مستقلة على أكبر مساحة ممكنة من فلسطين، بأكبر عدد ممكن من اليهود وأقل عدد ممكن من العرب داخل حدودها. وحتى الحرب العالمية الثانية، كانت أنشطة الصهاينة تركز بشكل أساسي على تجمعات اليهود الكبرى في أوروبا الشرقية.

 

لم يكن يهود الشرق الأوسط بالنسبة لهم سوى "عناصر بشرية" أدنى مرتبة، لا يمكنها أن تقدم سوى مساهمة محدودة في بناء دولة يهودية حديثة في فلسطين. وأحدث الهولوكوست نقلة نوعية في المواقف الصهيونية في هذا الصدد. بإبادته المصدر البشري الأساسي للدولة اليهودية، أجبِر قادة الحركة الصهيونية على الاتجاه نحو الشرق. وبعبارةٍ أخرى، في أعقاب الهولوكوست، أصبح يهود الشرق الأدنى لأول مرة عنصرًا أساسيًا في المشروع الصهيوني لتأسيس دولة يهودية دائمة في فلسطين.


الضحايا الفلسطينيون

 

أثناء الحرب الإسرائيلية العربية في 1948، ترك حوالي 750 ألف عربي منازلهم في فلسطين أو تم تهجيرهم قسرًا. وفي اللغة العربية، أطلِق على هذا العام المشؤوم اسم "النكبة"، وبالعبرية أطلِق عليه اسم "حرب الاستقلال". وبالنسبة للصهاينة، لم يكن العام 1948 نصرا عسكريا فحسب، وإنما شكل علامة تاريخية سجلت بلوغهم مرتبة الدولة والسيادة، واللحظة التي أعيد فيها إدراج اليهود في تاريخ العالم.

 

وبناءً عليه، أصبحت لدينا روايتان وطنيتان مختلفان كل الاختلاف عن العام 1948. لكن ما لا يمكن إنكاره هو أن نشأة دولة إسرائيل تسببت في ظلم فادح للسكان الأصليين. لا شك في أن الفلسطينيين هم المتضرر الأول من المشروع الصهيوني، حيث أصبح أكثر من نصفهم لاجئين، ومُحي اسم فلسطين من على الخريطة.

 

إلا أن هناك فئة أخرى من الضحايا، غير معروفين ولا يجري الحديث عنهم كثيرًا، هم يهود الدول العربية. فقد قضى مزيج سام من القومية العربية والصهيونية على التعايش السلمي بين اليهود والمسلمين في العالم العربي بعد نشأة دولة إسرائيل.


تتمحور هذه المذكرات حول الفئة الثانية من ضحايا الحركة الصهيونية، التي يعبر عنها تاريخ عائلتي. وأكرر: لقد كنا يهودًا عربًا. هذا هو التعريف الأمثل لهويتنا قبل النزوح. غير أن مصطلح "يهودي عربي" يلقى رفضًا شديدًا في إسرائيل.

 

يمكنكم أن تصفوا أنفسكم بيهودي فرنسي أو يهودي روسي أو يهودي روماني أو حتى يهودي ألماني، على الرغم من ارتباط ألمانيا المشؤوم بالهولوكوست. أما إذا وصفتم أنفسكم بيهودي عربي كما أفعل أنا، فستلقون معارضة شديدة على الفور. يجب الفصل بين الصفتَين، إذ يعد مصطلح "يهودي عربي" في نظر معارضيه خلطًا بين هويتين مختلفتين.

 

أما في نظري، فينتِج الجمع بين الصفتَين هويةً موحدة: يمكن للعربي أن يكون يهوديا، ولليهودي أن يكون عربيا. ويتنافى هذا مع القناعة الإسرائيلية السائدة بأن العربي لا يمكن أن يكون يهوديا، واليهودي لا يمكن أن يكون عربيا. ويعد مفهوم اليهودي العربي مستحيلاً من منظور أنطولوجي، حيث يجري تصوير اليهود والعرب في العادة كشخصياتٍ متنافرة، عالقة في صراع أبدي. من ناحيتهم، يؤيد المتطرفون العرب كذلك تلك الرؤية المباشرة ثنائية القطب.

 

وما يزال وجود صراع حضارات وصدع لا يمكن رأبه بين المسلمين واليهود شيئًا يُردد على مسامعنا بلا انقطاع. وأدى ذلك إلى ترسيخ أطروحة "صراع الحضارات"، وهو ما وفر مادةً ثرية لأنصار رفض الوجود اليهودي العربي في كلا المعسكرين.


 


يرسم تاريخ عائلتنا في العراق -والكثير من العائلات المنسية كعائلتنا- لوحة مختلفة جذريا. فهو يستدعي فترةً كان فيها الشرق الأوسط أكثر تعددية، يسوده قدر كبير من التسامح الديني وثقافة سياسية تقوم على الاحترام المتبادل والتعاون بين الأقليات العرقية المختلفة.

 

إن سيرة عائلتي بمثابة تذكير قوي بالهويات الشرق الأوسطية التي كانت مزدهرة فيما مضى، والتي تم إحباطها، بل وطمسها، لتنفيذ أجنداتٍ سياسية قومية. أما سيرتي الشخصية فتتتبع جذور إحساسي بخيبة الأمل تجاه الصهيونية، إذ يتضح من خلالها كيف ساهمت تجربتي الشخصية في تكوين رؤية متشككة تجاه الخطاب الصهيوني، ولماذا، بعد مرور أعوام كثيرة، جعلت مني مؤرخًا إسرائيليا تنقيحيا.


من هذا المنطلق، تُعد مذكراتي بيانا تنقيحيا، ووثيقةً مخالِفة، وتاريخًا بديلاً، وتحديًا للرواية الصهيونية التي تلقى رواجًا شديدًا عن يهود الدول العربية. وهي تقترح كذلك أن تاريخ العلاقات بين اليهود والمسلمين في العراق تم تشويهه عمدًا لخدمة الدعاية الصهيونية.


والكتاب هو شهادة شخصية عن ماضٍ معقد ودراسة مدعومة بحجة سياسية في آن واحد. والعوالم الثلاثة التي يشير إليها العنوان هي بغداد، التي عشت فيها حتى سن الخامسة، و"رامات غان" التي عشت فيها حتى سن الخامسة عشرة، ولندن التي عشت فيها حتى سن الثامنة عشرة.

 

وفي خلفية الرواية نشهد فترة مضطربة من التاريخ اليهودي، شهدت انتشار الدعاية النازية في العراق، والتطهير العرقي الذي راح ضحيته يهود أوروبا، وتقسيم فلسطين، وميلاد دولة إسرائيل، ونشأة أزمة اللاجئين الفلسطينيين، والنزوح الجماعي ليهود العراق والدول العربية الأخرى إلى إسرائيل، والتوترات بين الأشكناز والسفرديم في السنوات الأولى لتأسيس الدولة، والتي استمرت بشكلٍ أو بآخر حتى يومنا هذا.

 

بشكلٍ شخصي، كان علي مع كل انتقال من مكان إلى آخر أن أتأقلم مع مجتمع جديد، وأن أتعلم لغة جديدة؛ العبرية في البداية، ثم الإنجليزية. لم تكن تلك العملية سهلةً أو مباشرة أبدًا.

 

على حد تعبير إيلا شوحط، تتناول تلك المذكرات "مشاهد لغوية" و"رسم خريطة عاطفية للانخلاع من الجذور". وإيلا شوحط لمن لا يعرفها، هي ناقدة ثقافية بارزة من أصل يهودي عراقي، تطعن منذ عقود في الرواية التقليدية للتاريخ اليهودي، وانحيازها للمركزية الأوروبية على وجه الخصوص.

 

ويغطي تحليلها النقدي مجموعة واسعة من القضايا، على رأسها طبيعة الصهيونية، ومكانة المزراحيين أو اليهود الإسرائيليين في المجتمع الإسرائيلي، والصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وغيرها من حالات النزوح والشتات في الشرق الأوسط. وهي تؤكد أن الروايات الكلاسيكية للتاريخ اليهودي تميل إلى إسقاط تجارب اليهود في أوروبا المسيحية على تجارب اليهود في العالم الإسلامي على الرغم من اختلافها التام.

 

وهي ترفض ما تسميه "إلصاق صفة الغيتوهات" بتاريخ يهود الشرق الأدنى و"تلطيخه بالدماء"؛ أي الافتراض الخاطئ بأن يهود الشرق الأدنى كانوا يعيشون في غيتوهات، وأن تاريخهم عبارة عن سلسلة لا تنقطع من المذابح. ويأخذنا عملها إلى ما وراء الرؤى الثنائية والمستقطِبة، حيث يسلط الضوء على شخصية اليهودي العربي المركزية، ويتناول العلاقة بين قضيتي فلسطين واليهود العرب، ويقدم أوجه تشابه مؤثرة بين الصدمة والتشريد اللذين راح ضحيتهما الفلسطينيون واليهود العرب على حد سواء.

 

ولعل أكثر استنتاجات شوحط إثارةً للانتباه هو أن المؤسسات الاستعمارية والاستشراقية التي شكلت أساس المشروع الصهيوني لم تكن موجهة ضد السكان العرب الأصليين في فلسطين فحسب، بل كانت موجهة كذلك ضد المهاجرين اليهود من الدول العربية المجاورة.

 

إذا كان إدوارد سعيد قد حلل الحركة الصهيونية من وجهة نظر ضحاياها الفلسطينيين، فقد قدمت إيلا شوحط منظورًا جديدًا بتحليلها من وجهة نظر ضحاياها المزاحيين أو الـ"مزراحيم"، وهو المصطلح المستخدم للإشارة إلى يهود الدول العربية. وقد فتح عملها عيني، لا سيما على طبيعة الهوية الملتبِسة والمحيرة. وتقول شوحط في دراسةٍ تاريخية لها عن اليهود العرب: "الحرب صديقة الثنائيات... وهي لا تترك مجالاً للهويات المركبة". وساعدتني آخر مجموعة مقالاتٍ صدرت لها على فهم القوى السياسية التي شكلت مسار حياتي بصورةٍ أفضل، وأعطتني دفعةً قوية لمواصلة التفكير في الأسئلة الوجودية التي تتجاوز مسيرتي الشخصية (4).


من الكتب الأخرى التي أثرت فيّ بعمق، كان كتاب أوريت باشكين: "البابليون الجدد: تاريخ اليهود في العراق الحديث" (5). وباشكين أستاذة جامعية إسرائيلية من الأشكناز، حاصلة على درجة الدكتوراه من جامعة برينستون، وتدرّس حاليًا التاريخ في جامعة شيكاغو. ويقدم كتابها وصفًا مثيرًا للتعاطف والتأمل للحياة الفكرية والاجتماعية والثقافية التي عاشها يهود العراق في النصف الأول من القرن العشرين. وهي تحلل النصوص التي أنتجها يهود العراق، وتستكشف السياقات التاريخية التي شكلت عالم مؤلفيها.

 

ونقابل في كتابها العديد من اليهود "الذين اعتبروا العراق وطنهم، واللغة العربية لغتهم، والتعايش بين الجاليات العراقية المختلفة رؤيتهم السياسية". وقد أتاحت لي قراءة كتاب باشكين معرفة تاريخ مجتمعي، كما ساعدتني على التغلب على إحجامي عن كتابة قصة حياتي والحديث عن نفسي. وذكرتني الكاتبة بأن التاريخ هو مجموعة من السير الذاتية الفردية، وفي الوقت نفسه، زودتني دراستها بسياق وإطار عملٍ يمكن أن أدرِج فيه تاريخي الشخصي.


تشكل معاداة السامية أساس خطاب المظلومية الذي يتبناه اليهود حول العالم. وقد استحدث المؤرخ اليهودي الأميركي، سالو بارون، تعبير "بكائية التاريخ اليهودي"، الذي يصف التاريخ اليهودي باعتباره سلسلةً لا نهائية من معاداة السامية والاضطهاد والتمييز والقمع والتعذيب التي طالت اليهود، والتي بلغت ذروتها في الهولوكوست. وقد استخدم بارون هذا المصطلح للتعبير عن استهجانه لتلك البكائية، لكونها تسطّح تاريخ يهود أوروبا وتشوهه، وتضخم أوجه العجز وتتغاضى عن العناصر الإيجابية والإنجازات.

 

ولكن، حتى لو قبلنا جدلاً بأن تلك البكائية تعبر عن تاريخ يهود أوروبا، فإنها لا تنصِف بكل تأكيد تاريخ يهود الشرق الأدنى. لذلك من المهم تذكر وتسجيل الفترات التي كان فيها اليهود، مثل عائلتي، يعيشون في أجواء من التعددية الثقافية والتعايش التي سادت الدول الإسلامية قبل نشأة دولة إسرائيل. وهو أفضل نموذجٍ يمكن تقديمه في مواجهة حالة الدمار المزري التي يعيشها الشرق الأدنى المعاصر، من أجل مستقبلٍ أكثر إشراقًا. وسوف أعود إلى هذه النقطة في الخاتمة.

*آفي شلايم: مؤرخ يهودي عراقي يحمل الجنسيتين البريطانية والإسرائيلية، وأستاذ العلاقات الدولية في جامعة أكسفورد، وأحد المؤرخين الجدد. ولد أفي شلايم في بغداد، العراق، في 31 تشرين الأول (أكتوبر) 1945 وترعرع في إسرائيل.

 

يتحدث اللغتين العبرية والعربية، ويعلن أنه يهودي عراقي. له كتابات مستمرة في جريدة "الغارديان" البريطانية.

 

وبحسب مجلة (ذا نيشن)، فإن آفي شلايم يعد من أكثر الأشخاص تعمقًا وفهمًا للصراع العربي الإسرائيلي. درس التاريخ في جامعة كيمبريدج ودرس العلاقات الدولية في كلية لندن للاقتصاد. حصل على درجة الدكتوراه من جامعة ريدنيغ، ويدرّس فيها عِلم العلاقات الدولية، ويختص في القضايا الأوروبية.

 

يعود اهتمامه بالتاريخ الإسرائيلي إلى العام 1987 عندما حصل على منصب باحث أكاديمي وبرفيسور بريطاني (British Academy Research Professor)  في معهد سانت أنتوني بجامعة أكسفورد، وعمل كمدقق خارجي لرسالة الدكتوراه المقدمة من إيلان بابي، أحد المؤرخين الجدد المهمين. ترجمت هذه المقتطفات من الفرنسية دينا علي.
*   *   *
هوامش: 


(1) يصف بيني موريس، على سبيل المثال، حرب الجيوش العربية على إسرائيل في العام 1948 بأنها جهاد، أي حرب مقدسة. وفي خاتمة كتابه عن الحرب الأولى بين العرب وإسرائيل، كتب موريس أن تلك الحرب لم تكن صراعًا بين حركتين قوميّتين على قطعة أرض فحسب، لكنها كانت "جزءًا من صراعٍ أعم وأشمل بين الشرق الإسلامي والغرب" (بيني موريس، 1948: "الحرب العربية الإسرائيلية الأولى"، (نيو هيفن، إصدارات جامعة ييل، 2008، ص. 394).
(2) مارتن غيلبرت، "في بيت إسماعيل: تاريخ اليهود في الأراضي الإسلامية"، (نيو هيفن، إصدارات جامعة ييل، 2010).
(3) "القارة المظلمة، تاريخ القرن العشرين"، دار كومبليكس للنشر، 2005.
(4) إيلا شوحط، "استعمار وتصدعات. نصوص حول اليهود العرب"، ترجمته من الإنجليزية جويل ماريلي، دار لوكس كيبيك للنشر، مجموعة هومانيتيه، 2021.
(5) من إصدارات جامعة ستانفورد، 2012.

 

اقرأ المزيد في ترجمات:

 

مقتطف من كتاب آفي شلايم.. "ثلاثة عوالم، مذكرات عربي يهودي" (2-1)