آخر شهر في حياة الشهيد ناهض حتر

الأردن الرسمي والشعبي ما انفك يتفاعل مع سابقة اغتيال الشهيد الكاتب والمفكر ناهض حتر على درجات قصر العدل، في طريقه للمثول أمام المحكمة على خلفية إعادة نشر رسم كاريكاتوري على صفحته "الفيسبوكية"، عدّه القاتل وغيره "مسيئا للذات الإلهية".اضافة اعلان
رسميا، وضع جلالة الملك عبدالله الثاني النقاط على الحروف، أول من أمس الإثنين، خلال استقباله وجهاء محافظة البلقاء، مسقط رأس الشهيد، والمعروفة بفضائل العيش المشترك بين أتباع الأديان. حيث أعاد الملك التأكيد على الثوابت الوطنية في بلد نهض قبل نحو قرن على قيم التعددية بأشكالها كافة، والتسامح والاعتدال والوسطية، قبل أن يتصاعد خطاب الكراهية والتحريض، خصوصا في الفضاء العام، وصولا إلى ذلك اليوم الأسود؛ 25 أيلول (سبتمبر) الماضي، يوم كسر قلم ناهض بمقتله.
أكد الملك "أننا لن نسمح لأي جهة باستغلال الأوضاع الإقليمية للعبث بالداخل الأردني، ولن نسمح لأي شخص بمحاولة استغلال الدين لنشر الحقد أو العنف". وتوعد بمواجهة المحرضين "بحزم"، قائلا إنه لن يسمح "لأحد بتجاوز هذه الخطوط الحمراء أو التعدي على وحدتنا ونسيجنا الوطني".
في الأثناء، يجري التحقيق في قسم الجرائم الإلكترونية التابع لمديرية الأمن العام، مع عشرات الأشخاص، بمن فيهم "نشطاء" العالم الافتراضي "السوشال ميديا" الموقوفون أو مواطنون بثّوا 22 رسالة تهديد ووعيد للشهيد قبل اغتياله. من بين هؤلاء طبيب حث على هدر دمه، حين عرض 10 آلاف دينار لمن يحضر لسان الشهيد، و20 ألف دينار لمن يأتي بقلبه! كما تواصل القسم ذاته مع والد شخص أنشأ صفحة مقززة على "فيسبوك"، ثم ألحقها بالفيديو الشهير قبل أن يغادر إلى النمسا. وتوعد الأمن باتخاذ إجراءات قانونية ضده، أفضت إلى إغلاق تلك الصفحة التحريضية. وستوجه لعدد من الموقوفين تهم قبل إحالتهم إلى القضاء.
بالتزامن، ذكرت مصادر رسمية أن وزير العدل طلب من النائب العام أن يبادر إلى تحريك قضية حق عام ضد كل من يحرّض على الكراهية والطائفية وإثارة الفتنة، حتى لو لم يقدم المتضرر على تحريك شكوى بذلك. وفي هذا سابقة رائعة.
كذلك، تراجع الحكومة عديد قوانين لترى مدى فعاليتها في مواجهة خطاب الكراهية والتحريض، مثل  قوانين الاتصالات، والمحاكمات الجزائية، والعقوبات والجرائم الإلكترونية. وتندرج هذه الإجراءات ضمن محاولة وأد الفتنة في منبتها، وسط جدال بأن تضمن التعديلات المقترحة عدم المس بالحد الأدنى من حريتي الإعلام والتعبير، حتى لا تفتح الباب أمام انتقادات الدول المانحة والمدافعين عن هذه الحريات الأساسية في بلد تقهقرت فيه منظومة الحريات كثيرا.
فوق ذلك، تدرس الحكومة والمؤسسات السيادية والأمنية عديد اتهامات وشكاوى سجّلها ذوو الفقيد وأصدقاؤه وزملاؤه بحق مؤسسات رسمية، أسهمت في التحريض استباقيا وتعبئة الرأي العام واللعب على غرائز الدين في مجتمع ذي خاصية اجتماعية تجعل الفرد في كثير من الحالات مستسلما سلبيا ينساق خلف نهج القطيع بفعل مناهج التجهيل والإقصاء.
إرهاصات التعبئة بدأت ببيان رئيس الوزراء، الذي طلب فيه من وزير الداخلية التحقيق بما نسب إلى حتر. بعد سويعات مساء يوم عطلة، أصدرت الداخلية "تعميما" عدّت فيه الكاتب "فاراً من وجه العدالة" وطلبت إحضاره "مخفورا بالسرعة الممكنة".
ذوو الفقيد اشتكوا مرارا من أنه تعرض لامتهان وانتهاكات أثناء التوقيف، ما أثّر على صحته الهشّة أصلا من تأثير العمليات الجراحية التي خضع لها عقب تعرضه لضرب مبرح قبل عقدين على يد بلطجية. وتراجعت صحته كثيرا بسبب تغيير مواعيد تناوله للدواء، ما استدعى نقله لمستشفى البشير، لكن بعد تغطية رأسه وتزنيره بالسلاسل كما لو أنه "مجرم خطير"، مع أنه موقوف على جنحة نشر. هذه الإساءات انتهت بتوقيعه على ورقة تحمّله شخصيا مسؤولية الحفاظ على سلامته قبل تكفيله، من دون توفير أي حماية أمنية.
في ذلك الوقت، ظل المحرّضون طلقاء.  
لكن مصادر رسمية ردّت على هذه التهم بالقول إن الطبيب الاستشاري في البشير قرّر -بعد فحصه- إعطاءه أدويته مرتين في اليوم بدل أربع مرات، وبالكميات السابقة ذاتها. وجادلت المصادر بأنه لم يحجز داخل زنزانة منفردة، بل أفرغ له مهجع يتسع لعشرة أشخاص لحمايته من ردود أفعال بعض النزلاء الغاضبين على الكاريكاتور. وأوضحت أن تغطية الرأس والوجه أثناء مرحلة دخول المستشفى كانت ضمن إجراءات حماية "النزيل" وليس "المجرم كما قيل"، من ردّات فعل محتملة على يد مراجعين.
وأفادت المصادر الرسمية التي تحدثت لكاتبة المقال، بأن المحققين لم يهينوا كرامته أو يشتموه، لكن بعضهم تصرف بطريقة "سمجة".
وفيما يتعلق بتوقيعه على تعهد يحمله مسؤولية الحفاظ على حياته لحظة الإفراج عنه، أوضحت المصادر أن الأجهزة الأمنية كانت تحبذ أن لا يترك مكان التوقيف لكي لا يعرض حياته للخطر. ولكنّه أصر على الخروج على ضمانته الشخصية.
وبخلاف ما قال أهله وأصدقاؤه، فإن الأمن الوقائي وفّر رجالا بالزي المدني لمراقبة العمارة التي يسكن فيها مع عائلته، بمن فيهم أشقاؤه.
على أن الكاتب الراحل كان أبلغ عائلته خلال الزيارات وبعد الإفراج عنه أن غالبية الموقوفين كانت تكن له المودة والاحترام، احتفاء بكتاباته المدافعة عن الأردن.
رغم الشروحات الرسمية، ما تزال أسرة الفقيد -حال العديد من مناصريه والمتعاطفين معه- غير مقتنعين بهذه الروايات. وهذا الجدال يستدعي تكليف المركز الوطني لحقوق الإنسان بتشكيل لجنة تقصي مستقلة لقراءة ملف الشهيد من الألف إلى الياء، كيما يطمئن الرأي العام بأن هناك مؤسسات مستقلة تحمي كل مواطن بغض النظر عن مرتبته الاجتماعية أو لونه أو جنسه أو أصله وفصله، بدلا من تشكيل لجنة وزارية غير محايدة.
عودة إلى الشهر الأخير في حياة الشهيد حتر. فإنه نشر اعتذارا بأن هدفه من "تشيير" الكاريكاتور جاء من باب "فضح وكشف ممارسات الدواعش وقيمهم"، التي لا تمت للدين الحنيف بأي صلة. بل إن هذا التنظيم الإرهابي يطوّع الدين لخدمة أهدافة السياسية. وقال لأهله وأصدقائه -بحسب شهادات حية جمعتها كاتبة المقال- إنه صدم من تحرك رئيس الوزراء غير المسبوق.
وأعرب عن المرارة من تعرضه للإهانة أثناء فترة التوقيف. أسوأ ما في الأمر أن منفذّي القانون الذين وصلتهم عشرات الشكاوى من ذوي حتر ومحاميه عن تعرضه لتهديدات حقيقية، سارعوا للتقليل من خطر تلك التهديدات، وطمأنه أحدهم بأنها مجرد فقاعات "كرتونية". مسؤول آخر ذهب بعيدا في طمأنته حين قال له "يمكنك التجول متى شئت دون خوف، حتى لو وضعت إشاره على جبينك تدل على هويتك".
من أقواله قبل موته، أنه لم يكن يخشى على حياته بقدر حزنه على وطنه، ذلك أنه لم يعتقد يوما بأنه سيلاقي حتفه بيد أحد مواطنيه.
في المحصلة، من ضرب ضرب ومن هرب هرب. زميلنا المشاكس انتقل الى الجنّة شهيد الكلمة الحرة والرأي الجريء المستقل. ذهب ضحية الدرك الأسفل الذي وصل إليه بعض منا في بلدنا، من إقصائية في التفكير وتخوين وتكفير الناس. وكذلك من مؤسسات رسمية لم تقم بواجبها الكامل في مواجهة خطاب الكراهية والتكفير والتوظيف السلبي للدين، والعواطف والانفعالات في معارك هلامية بقوة القانون. ذهب ضحية كتب مدرسية ألغت الآخر ولم تثن العباد عن التشفي بزهق روح إنسان صاحب مبدأ وموقف، وسمحت لظلاميي الفضاء الافتراضي باغتيال سمعة الناس والتحريض على القتل، من دون وجل أو عقاب.
فجعنا باغتيال الشهيد حتر. صدمنا من وجود قتلة بيننا لا يكترثون بالسلم الأهلي ولا يعرفون تاريخ شعبنا، الذي ترعرع على قيم التعددية والتسامح والتآخي في بلد متعدد الأعراق والثقافات والأديان.
الأمل في أن لا تذهب دماء الفقيد هدرا، وأن يكون الجميع قد اتعظ من هذا الدرس المؤلم. فالرصاصات التي اغتالت الشهيد حتر، موجهة لكل صاحب قلم حر وكلمة حق، ولكل أردني يحمل القيم المناهضة لثقافة الموت والكراهية العمياء والإقصاء والشيطنة والتكفير.
رحمك الله وأسكنك فسيح جنانه.