أبعاد الأمن الغذائي ومتطلباته

"الأمن الغذائي" مفهوم حديث طرحته منظمة الأغذية والزراعة الدولية "فاو" في ستينيات القرن الماضي. وهو لا يعني، كما يذهب إلى ذلك كثيرون، الاكتفاء الذاتي أو الاعتماد على الذات. إذ لا يتعدى مفهوم "الأمن الغذائي" للدولة في بعده الأساسي، حدود "توفير مخزون من احتياجاتها من المواد الغذائية الأساسية، لفترة تكفي لأن تتدبر أمر تجديد هذا المخزون لتلافي حصول أي عجز فيه". أما الفترة الزمنية لكي يكون المخزون استراتيجياً محققاً للأمن الغذائي للدولة، فتختلف من بلد لآخر، ومن مادة غذائية لأخرى، لكنها في كل الأحوال لا تقل عن شهرين ولا تزيد عن سنة واحدة.اضافة اعلان
ينطوي مفهوم الأمن الغذائي على ثلاثة أبعاد رئيسة: البعد الأول، يتعلق بتوفير الغذاء (Availability)، والذي يعني توفر كميات كافية منه ضمن المخزون الاستراتيجي. فيما يتعلق البعد الثاني بمأمونية الغذاء (Food Safety)، من حيث سلامته وصلاحيته للاستهلاك البشري. أما البعد الثالث، فيتعلق بجعله متاحاً بأسعار ضمن القدرة الشرائية لغالبية السكان على الأقل، وبما يمكنهم من الحصول عليه (Food Accessibility)؛ وهو ما يتطلب دعم أسعاره لبعض الفئات الاجتماعية عند اللزوم، أو تقديمه كمعونات للفئات الأشد فقرا في الحالات التي تتطلب ذلك. وهناك من يضيف بعداً رابعاً للأمن الغذائي، هو الاستقرار (Stability)؛ بمعنى المحافظة على أوضاع الغذاء، بجميع أبعادها الثلاثة السابقة، بعيدة عن التقلبات.
على أن توفير الغذاء، وهو البعد الأهم بين الأبعاد الثلاثة للأمن الغذائي، أصبح مرهوناً بمدى توافره في السوق العالمية التي تخضع بدورها لعاملين: مخاطر الطبيعة التي تتزايد مع التغير المناخي؛ والأهداف السياسية لكبرى الدول المنتجة، والتي قد تحجم عن عرض الغذاء في الأسواق. فقد صار مألوفاً في بعض الأحيان أن تبحث الدول عن غذاء تحتاجه، وهي قادرة على دفع ثمنه، لكنها لا تجده معروضاً للبيع في الأسواق؛ لأن نقص الغذاء لأسباب طبيعية، أو الإحجام عن بيعه بسبب حاجة الدولة المنتجة له أو لأسباب سياسية، قد يقللان من عرضه في الأسواق لدرجة بعيدة.
ويكون الأمن الغذائي للبلد في أفضل أوضاعه كلما زادت نسبة ما يوفره الإنتاج المحلي من احتياجاته من الغذاء (الاكتفاء الذاتي)، وكلما زادت نسبة تمويل الصادرات للجزء المستورد من الغذاء (الاعتماد على الذات). ويتراجع الأمن الغذائي كلما زادت نسبة المستوردات من الغذاء. ويزداد سوءاً كلما قلت نسبة تمويل الصادرات للغذاء المستورد، وزادت نسبة تمويلها من القروض والمساعدات.
هذا وتعود مسؤولية مأمونية الغذاء؛ أي سلامته وصلاحيته للاستهلاك البشري، إلى الأجهزة الحكومية المختصة، وأولها بطبيعة الحال جهاز المواصفات والمقاييس الذي يتولى تحديد مواصفات السلامة والصلاحية، والتي تصدر بتشريع بدرجة قانون، يتم بموجبه وضع مواصفات إجبارية "قواعد فنية" (Technical Regulations) ملزمة لكل مادة غذائية، لضمان سلامتها وصلاحيتها. وتتولى بعد ذلك الأجهزة الرقابية، كل في مجاله، مراقبة التزام السلع المعروضة في السوق بالقواعد الفنية.
كما تعود مسؤولية بقاء أسعار الغذاء ضمن القدرة الشرائية لغالبية المستهلكين إلى السياسات الحكومية. فعلى تلك السياسات أن تضمن حرية السوق، بما يحد من مختلف صور الاحتكار؛ وكذلك تقديم الدعم للمستحقين وفق آلية تضمن وصوله إليهم دون غيرهم. ويرتبط بذلك ويكمله ضرورة قيام الحكومة بمراقبة أسعار المواد الغذائية المعروضة في السوق، والعمل على استقرارها.

[email protected]