أوباما أو ماكّين؟

سؤال "أوباما أو ماكّين في البيت الأبيض؟" عاد ليشتعل من جديد مع اقتراب اختيار المرشّحين الديموقراطيّ والجمهوريّ لرئاسة الولايات المتّحدة الأميركيّة نائبين لهما. لكن السؤال هذا، وهو ما لم يتوقّف طرحه منذ أشهر، أميركيّاً وكونيّاً، وجد ما يزخّمه في أسباب أخرى تتعدّى "حملة تشويه السمعة" التي رعاها المرشّح الجمهوريّ بحقّ خصمه، بحيث انقلبت بسرعة نتائج استقصاءات الرأي العامّ.

اضافة اعلان

فبعدما مثّل أوباما الشباب والتغيير ووعد التجديد الأخلاقيّ والتوسّع الاقتصاديّ، في مقابل ماكّين المسنّ والمتعب الذي يستأنف عهد جورج دبليو بوش لا سيّما إخفاقاته، إذا بالأمور تختلف. فقد غدت الصورة الشائعة اليوم تربط أوباما بقلّة التجربة وباحتمالات التجريب، إن لم يكن المغامرة، بينما تماهي ماكّين مع التجربة والحكمة، فضلاً عن البأس والقوّة.

قصارى القول إن المسألة غدت تتعدّى الأشخاص، على أهميّتهم، إلى المبادئ والمعادلات، أو أن قيمة الأشخاص صارت تُستمدّ إلى حدّ بعيد من مدى مطابقتهم لمثل تلك المبادئ والمعادلات. ويمكن القول، ولو بقدر من التعميم، إن الأميركيّ الذي يعطي الأولويّة للاعتبار الاقتصاديّ سوف يصوّت لأوباما، غاضّاً النظر عن موقع أميركا في العالم ودورها فيه. أمّا الذي يمنح أولويّته للمعطى الجيوبوليتيكيّ والاستراتيجيّ، واستطراداً لقوّة الولايات المتّحدة وهيبتها، فيُتوقّع منه، ومنها، التصويت لماكّين.

في الحالة الأولى، لا بدّ من التذكير بأن الرؤساء الديمقراطيّين هم الذين ارتبطت أسماؤهم بالوفرة الاقتصاديّة والخروج من أزمات كانت داهمة وأحياناً خانقة. يصحّ هذا في فرانكلين روزفلت الذي أخرج بلده من الكساد الكبير باعتماده مبادئ الاقتصاد الكينزيّ، كما يصحّ في جون كينيدي الذي مثّل نضج الانتقال إلى عالم ما بعد الحرب العالميّة الثانية، وفي خلفه ليندون جونسون صاحب "المجتمع العظيم" وإنجازاته الاجتماعيّة والعرقيّة والاقتصاديّة. وكانت آخر التجارب، على هذا الصعيد، رئاسة بيل كلينتون الذي خاض معركته الرئاسيّة الأولى بشعار "إنه الاقتصاد يا غبيّ"، ولم تنته سنوات عهديه الثماني إلاّ وأميركا تعيش ذروة ازدهارها ووفرتها وتتمتّع بفائض ماليّ ضخم تولّى جورج بوش تبديده.

وفي الحالة الثانية، يصحّ القول أيضاً إن الرئيس الجمهوريّ هو الذي يتصدّى لأعداء الخارج، أو الأعداء المتوهّمين، فيحقّق الانتصار لأميركا على النحو الذي فعله دوايت أيزنهاور، وهو كان قائد الجيوش التي كسبت الحرب العالميّة الثانية قبل وصوله إلى البيت الأبيض، أو ما فعله رونالد ريغان الذي حقّق لبلده نصر "الحرب الباردة" ضدّ "إمبراطوريّة الشرّ" السوفياتيّة، أو جورج بوش الأب الذي أخرج صدّام حسين من الكويت على رأس تحالف دوليّ ضخم.

والراهن أن كلاًّ من المرشّحين يشبه الدور الذي يناط به، أو ينيطه به مؤيّدوه وخصومه، تبعاً لمواقعهم. فماكّين أسير حرب فيتنام وأحد "أبطالها" الذي اتّخذ، ويتّخذ، موقفاً صقريّاً حيال الحرب في العراق وإبقاء القوّات الأميركيّة فيه. وبدوره، فإن أوباما ذا الأصول المختلطة، هو الأقلّ صقريّة في الخارج، إن لم نقل إنه الحمائميّ في العراق، فيما هو، في الوقت عينه، من يتشخّص فيه التغيير العرقيّ والاجتماعيّ والثقافيّ من دون ارتجاجات انقلابيّة تهدّد النسيج الوطنيّ (ما حمل القسّ الأسود جيسي جاكسون، رفيق مارتن لوثر كينغ، على اتّهامه بالتشبّه بالبيض أكثر مما يجب).

هذا لا يلغي أن كلاًّ من المرشّحين سيحاول سدّ نقصه باختيار نائبه. ومن هنا اصطحب أوباما رئيس لجنة الشؤون الخارجيّة في الكونغرس، جوزيف بايدن، على بطاقته الديموقراطيّة تبعاً لمعرفته بأحوال العالم، فيما يُتوقّع أن يصطحب ماكّين وجهاً جمهوريّاً يكون معروفاً باهتماماته الداخليّة والإصلاحيّة.

بيد أن الأساس في الولايات المتّحدة، وفي نظامها، يبقى رئيس الجمهوريّة، لا نائبه، علماً بأن موقع نائب الرئيس تعزّز كثيراً في العهدين الأخيرين لجورج دبليو بوش بسبب نائبه ديك تشيني، ذي الخبرة والشخصيّة اللتين تبزّان خبرة الرئيس وشخصيّته، والذي هو على نحو مفارق، أشدّ منه جموحاً إيديولوجيّاً.

في هذا المعنى يمكن القول إن الرياح شرعت تهبّ مؤخّراً لصالح ماكّين. فقبل أن تهدأ عاصفة الخطر الإيرانيّ، تقدّمت القوّات الروسيّة نحو جورجيا، الأمر الذي أطلق إجماعاً واسعاً بين صنّاع القرار والمثقّفين الغربيّين، لا الأميركيّين فحسب، على استيقاظ النوازع الامبراطوريّة لروسيا. وإذ قرع كثيرون نفير "عودة الحرب الباردة"، بينما كان باراك أوباما يستمتع بإجازته في الباهاماس، تذكّر البعض الحرب الكوريّة أواخر الأربعينات وأوائل الخمسينات: فهذه الأخيرة لم تكتف بإثارة الرأي العامّ الأميركيّ وإيصال رئيس جمهوريّ إلى البيت الأبيض، بل مهّدت لقيام المكارثيّة في سياق "مكافحة الخطر الشيوعيّ". وفي مقابل هذين الحدّة والاستقطاب على جبهة الخارج ومترتّباتها الداخليّة، قد لا يبدو التغيير الاقتصاديّ والاجتماعيّ، المنوط بأوباما، على الدرجة نفسها من الإلحاح. فإذا صحّ هذا التوقّع كانت روسيا وإيران، لا سيّما الأولى، في طليعة المقترعين لغير مصلحة الأخير.