الاقتصاد: مسيرة مفخخة

مثلما هي الفنتازيا السياسية الأردنية، هناك أيضاً فنتازيا اقتصادية أردنية بامتياز. ثلاثة عقود على الأقل، والحكومات تتجنب القيام بالإصلاح الاقتصادي الحقيقي متوسط وبعيد المدى، وتمارس بدلاً منه ترحيل الاستحقاقات المهمة؛ ما جعلها -حكومة تلو أخرى- تسقط في فخ الانصراف عن مواجهة القضايا الاقتصادية الكبرى، والانشغال عنها بمصارعة الأزمات الطارئة التي أصبحت مسلسلاً متفجراً متواصلاً أمام جميع الحكومات، دائم المشاغلة لها، كنتيجة حتمية للترحيل المستمر لاستحقاقات الإصلاح تهربا من مواجهتها.اضافة اعلان
لغياب الإرادة، ولأسباب أخرى، ما يزال الدعم بشتى أشكاله الذي تقدمه الحكومة منذ أربعة عقود بدون آلية تضمن وصوله إلى مستحقيه. وظلت فئات اقتصادية واجتماعية لا تستحقه، تتطفل عليه على حساب الخزينة، حتى بلغت قيمته اليوم نحو 2.5 مليار دينار، في الوقت الذي كان ممكناً لآلية سليمة لإيصال الدعم إلى مستحقيه أن توفر على الخزينة ما قيمته مليار دينار سنوياً. لكن سوء إدارة ملف الدعم استمر في إضافة المزيد من العجز على الموازنة العامة، حتى وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه اليوم.
التهرب الضريبي يمثل قصة أخرى في مسلسل ترحيل الأزمة المالية. بعض الخبراء يقدرون قيمة التهرب الضريبي بربع مليار دينار سنوياً، لكن رئيس وزراء سابق، وهو اقتصادي معروف، قدر في لقاء صحفي جرى معه قبل أشهر، قيمة التهرب الضريبي بنصف مليار دينار سنوياً على الأقل. وحتى لو كان التهرب بنحو ربع مليار دينار فقط، فهو خسارة كبرى لبلد مثل الأردن، يعاني من عجز مزمن في موازنته، ومديونية كبيرة وصلت اليوم إلى نحو 70 % من الناتج المحلي الإجمالي.
الهيئات المستقلة التي أنشأتها الحكومات المتعاقبة في العقدين الأخيرين، تمثل أيضاً حلقة من حلقات مسلسل الاختلالات المالية، وما يترتب عليها من اختلالات اقتصادية تكاد تعصف بالاقتصاد الوطني. إذ يبلغ مجموع موازناتها 1.3 مليار دينار، بعجز قدر العام 2011 بنحو 350 مليون دينار. وحتى الآن، لم تنفذ الحكومة وعدها بإعادة هيكلة هذه المؤسسات، وبقيت على حالها بدون إلغاء أو دمج، لتبلغ كلفة دعم الحكومة لها هذا العام 280 مليون دينار.
على صعيد آخر، لم تتجرأ الحكومات المتعاقبة على فرض مبدأ تصاعدية ضريبة الدخل، مخالفة بذلك بشكل صريح النص الدستوري الذي يقر هذه التصاعدية، بقصد إعادة توزيع عوائد التنمية والمكاسب الاقتصادية بين الفئات الاجتماعية المختلفة، وتوفير أكبر قدر ممكن من التكافل المجتمعي، كأداة مهمة لتحقيق الأمن الاجتماعي والسلم الأهلي. وحتى اليوم، لا نجد لدى الحكومات أذنا صاغية لنداءات الإصلاح بالتوقف عن مخالفة الدستور، والبدء في تطبيق مبدأ تصاعدية الضريبة على الدخل والأرباح.
لقد أورث ذلك كله الدولة تحديات اقتصادية كبيرة، وأزمات دورية لم تزل تئن تحت وطأتها منذ فترة طويلة. ومع ذلك، ما يزال العزوف عن مواجهة الاستحقاقات الاقتصادية والمالية الكبرى سياسة متبعة لدى الحكومات حتى اليوم، رغم صعوبة المرحلة التي تعبرها البلاد؛ إما لغياب الرؤية وافتقاد الإرادة، وإما للانشغال بالأزمات الاقتصادية والمالية المتفجرة التي تواجهها حكومة تلو الأخرى بسبب سياسة ترحيل الاستحقاقات الاقتصادية والمالية الأساسية، والمتبعة منذ عقود.
وكما هو حالها دائما، لم تجد الحكومة مخرجا لتفادي تفجر أزمتها الاقتصادية والمالية مؤخرا غير جيوب المواطنين، بمنطق بائس يتذرع بأن الأزمة خانقة، وتتطلب حلا سريعا تجنبا لانهيار الاقتصاد. والغريب أن هذا المنطق لم يقنع أصحابه بالتوقف عنه بعد تكراره مرات ومرات وانكشافه للجميع. وعندما يسألون عن استمرارهم بالتلكؤ في مباشرة حلول جذرية للوضع الاقتصادي بعد كل هذه الأزمات والتجارب، لا تسمع منهم جوابا غير الصمت أو هز الرؤوس الذي لك أن تفهم منه أي جواب تريد، أو أن لا تفهم أي إجابة قط.

[email protected]