التاريخ الجديد والأردن

تشهد الكتابة التاريخية اليوم عالميا تحولا مثيرا على صعيد الموضوع والاتجاهات والمنهج، وقد افاض كل من إريك هوبسباوم في مقالته المطولة "تجديد التاريخ" وجاك لوغوف - محرر ومؤلف- في كتابه "التاريخ الجديد" الصادر حديثا في الحديث عن التاريخ المتحول اليوم. فالتاريخ الجديد ليس فقط منهجاً بحثياً، وإنما هو أيضاً منهج يسعى إلى الفصل بين أنواع العلاقات بين الناس وإظهار المختلف، والمؤتلف.

اضافة اعلان

أدى التاريخ الجديد إلى اعتماد أنواع جديدة من المصادر مثل دفاتر العدول والتاريخ الشفوي والتراث المادي وسجلات المخاتير ودفاتر الجيش وسجلات المستشفيات... وإلخ، وسلط عليها الضوء من زوايا جديدة بنوعية التساؤلات المطروحة ونوعية القضايا المتناولة، فلم يعد تاريخ الأمة أو الوطن يمثله تاريخ الجنرالات والشخصيات الذائعة الصيت، بل أقحم التاريخ الجديد كل المغيبين والهامشيين من خلال دراسة "المتروك" من المصادر والمغيب من الفئات الاجتماعية: تاريخ المجانين، وتاريخ الرعاة، وتاريخ اللصوص والبخلاء والساخرون..إلخ, وهي مواضيع وُصف بعضها في الماضي بأنها "مواضيع خسيسة" مقابلة بالمواضيع النفيسة، فمع التاريخ الجديد أصبح هناك اهتمام بالشرائح الاجتماعية الغائبة في أكثر الحالات من النصوص المصدرية.

من موضوعات التاريخ الجديد اردنيا تاريخ الكوارث والمرض، حيث تفيد القيود والذاكرة الجمعية ان الاردن شهد منذ العهد العثماني العديد من الكوارث الطبيعية والجوائح، ومنها غزو أسراب الجراد لأرضي "غور  كبد" في السلط عام 1891، ثم مهاجمة أسراب الجراد لمنطقة بيوضة في السلط حيث أتلفت محصول القمح، ثم تعرض قضاء الطفيلة لنفس الكارثة عام 1900 فأتى الجراد على محاصيل الفلاحين.

مثل الجراد تحديا كبيرا للمزارعين، كما مثلت الثلوج التي كانت تأتي بغزارة ما يمكن تسميته بتاريخ الكوارث أو الغرائب، فالناس اعتادوا فيما بعد أن ينسبوا أحداثا لعام محدد؛ عام الجراد مثلا أو عام الثلجة الكبيرة أو سنة الزلزال عام 1927، وهكذا درج الناس في شرق الأردن على تأريخ أحداثهم. ففي عام 1939 هطل المطر غزيرا أوائل نيسان وهبت رياح شرقية لفحت الزرع في مناطق مأدبا والكرك وظلت تلك الشتوة النيسانية مضرب مثل في ذاكرة الناس، وفي الكرك يؤرخون "بثلجة البيك".

ليس لدينا الكثير عن تأريخ المرض، قبل نهاية الثلاثينات، بيد أن عدم حدوث تغيرات سريعة يجعل مادة التقارير الرسمية عن الأمراض قابلة لأن تؤخذ نموذجاً على أمراض حقبة الثلاثينيات، ونبدأ بأمراض الحيوانات وأشهرها الحمى القلاعية والحمى المالطية والجدري والجرب وداء الكلب والجمرة العريضة.

أما الأمراض التي سجلتها دائرة الصحة العامة في الأردن فكانت تشير إلى ازدياد إصابات التهاب الأمعاء بين الأطفال والأمراض العينية، أما داء الحصبة فقد خف كثيرا عما كان عليه قبل سنة 1938 وكذلك الحال مع الانفلونزا, فيما إصابات الملاريا زادت لتصل إلى 22 اصابة وكذلك مع مرض التيفوئيد والباراتيفوئيد. ووقعت 18 حالة من مرض التيفوس، وكانت معظم حالات التيفوس بين البدو، الذين انتشر بينهم داء الحمى المالطية وبخاصة في الجنوب فتوفي 42 شخصا، وكان هناك 165 حالة سعال ديكي.

سجلت الملاريا أكثر الأمراض انتشارا عام 1938 فقد أحصي في الربع الأول من ذلك العام521 اصابة، وكانت أعمال المقاومة في مختلف مناطق الإمارة والقرى والبلدات القريبة من السيول والقنوات، وتم تجهيز حملة وطنية لمكافحة البعوض وساهم الجيش بأعمال المكافحة في مناطق الغور ونهر اليرموك وجسر المجامع.

في الأربعينيات كان المستشفى الايطالي هو الوحيد في عمان، قبل أن يؤسس الدكتور ملحس مستشفى في جبل عمان، أما دائرة الصحة فكانت نهاية شارع السلط، وكان فيها عدد من الأطباء الذين لم يفتحوا عيادات في المدينة، كشوكت المفتي وبعضهم لم يكن يستقبل المرضى إلا في نطاق ضيق مثل مصطفى خليفة. كان ذلك المستشفى للفقراء والغرباء معا، وهو اقرب إلى المستوصف، حيث تعطى فيه اللقاحات ومعالجة الحالات الطارئة التي لا تستطيع الوصول الى المستشفى الإيطالي.

تخبر "سيرة عمان" لعبدالرحمن منيف أن من أطباء عمان الطبيب برنابا الذي يوصف انه شخصية غامضة، وعلاوة على المستشفى الايطالي ودائرة الصحة بشارع السلط، كان هناك مركز طبي غير محبب للناس وسيئ السمعة وهو "الكرنتينا" وهو أول مركز حجر صحي وموقعه بجانب قوات البادية مقابل سينما البتراء وهو ليس ببعيد عن السيل.

كان هناك أطباء آخرون شكلوا ملامح السيرة الطبية لعمان ومنهم الطبيب يوسف عزالدين وكانت عيادته مقابل المدرج الروماني والطبيب جميل التوتنجي طبيب القصر الخاص، وهو سياسي، وفي فترة لاحقة وصلت كوكبة مميزة من الأطباء ومنهم عبدالرحمن شقير ومنيف الرزاز ونبيه ارشيدات وجورج حبش ووديع حداد، ولكن هؤلاء أسهموا في السياسة أكثر من الطب.

 ومن أطباء الأسنان تذكر سيرة المدينة إبراهيم كاتبي وعيادته في شارع الملك فيصل، مقابل البنك العثماني، وكان الناس إذا لم يفلح علاجهم يذهبون إلى البطيخي مركب الأسنان أو أبو حسن الحلاق المطهر والحلاق سابقا، وبعد عام الاستقلال عاد التيفوس، وقد بدا أول الأمر مرضا غريبا، لكن بعد عدة وفيات أمكن تشخيصه، "ففتحت أبواب "الكرنتينا" لتستقبل المصابين، كان معظم الذين يصلون هناك لا يخرجون أحياء...".

[email protected]