الحقيقة ما تزال في جيبي

كثيرون هم الذين يزعمون امتلاكهم للحقيقة وحدهم دون الأنام، وهم على استعداد لفرض هذه" الحقيقة" بشتى صنوف "الإقناع والإلزام" التي قد تصل إلى درجة غير منطقية ولاإنسانية في أحيان كثيرة. هل قلنا "غير منطقية"؟ نعم، فقد وقع مع صديق لي يشغل منصبا أكاديميا ما يشي بهذا "المنطق الفريد".اضافة اعلان
يقول صديقي إنه يستغرب تشبث العديد من الزملاء في الجامعة بآرائهم حد التعصب والتقوقع في زاوية "الأنا" الضيقة. وكان يرد الأمر إلى أنها حالة من فقدان البوصلة وانغلاق التفكير، لكنه حين يمحص الأمر يراه نتاجا طبيعيا و"مقنعا" لتربية قديمة ترسخت على العناد والوقوف على قدم واحدة، وعلى مسافة واحدة من العالم.
المتعصبون ومحتكرو الحقيقة لا يرضون إطلاقا بمبدأ الاقتناع؛ ذلك أنهم يرون في الوصول إلى نتيجة منطقية للمعطيات استسلاما للآخر وإقرارا بصواب رأيه، وبالتالي اعترافا بتفوقه في مجال ما، حتى لو كان هذه المجال "هو مجال الفكرة"، وهؤلاء هم الذين رماهم الإمام أبو حنيفة بعبارته المشهورة "ما جادلت حمقى إلا أقنعوني"!
يضرب لي صديقي مثالا سافرا على ادعاء احتكار الحقيقة على وجه طريف؛ إذ استدرجه أحد سائقي التكسي إلى حديث سياسي، أصر فيه -مخالفا صديقي- على أن الأردن يمتلك السلاح النووي وهو ما يقوي شكيمته في المحافل الدولية، ويجعله قادرا على استقطاب المعونات الاقتصادية، وهو ما يجعله صاحب عين قوية في وجه العدو الإسرائيلي.
ولما تيقن صديقي الدكتور أن محدثه غير مازح، أراد مناقشته في الأمر، وهو ما استهجنته منه، غير أنه برر ذلك بأن شفقته على تفكير الرجل هي الدافع. قال، فسألته: هل أعلن الأردن عن ذلك، أم تم تتبع برنامجه فاكتشف؟ قال صديقي: فثارت ثائرته، وهز رأسه باستخفاف، وقال: النووي وما أدراك ما النووي! لماذا يعلن الأردن ويعرض نفسه للعقوبات والحصار يا خالي!. وأخفض من صوته من دون مبرر: "لقد كشف الموساد أمر النووي الأردني"!
حاول صديقي، على ما أخبرني، أن يأتي عقلا في الرجل من ذات اليمين أو ذات الشمال، لكنه أبى وظل يقذف في وجهه عبارات من موديل "اللي بدري بدري" و"يا لك من مسكين" و"اييييه.. الأيام قادمة وسيزودك بالأخبار من لم تزودِ"! ويتبعها بنظرات شفقة، ويلقي بظل تهكم مكتوم على وجه صديقي المبتسم في وجه الشارع المزدحم.
قال صديقي إنه سأل الرجل: هل غايات النووي الأردني سلمية؟ فبوغت، وأخفض صوت الراديو الذي كان قد رفعه منهيا الحديث مع "تخلف" صديقي، واستوضحه السؤال. فأوضح الدكتور: ما الهدف الذي يسعى له الأردن من امتلاك السلاح النووي؟
ضحك الرجل طويلا ورد السؤال بسؤال: هل تعرف سلاحا في الجيش الاردني اسمه سلاح "الحرب الالكترونية"؟ ولما أومأ له بالإيجاب، تابع: إن الأمر مرهون بإرادة هذا السلاح، إن أراد تصعيد الأمور فلن يدخر أحدا في المنطقة، وإن "الله هداه" فالأمور إلى خير ووئام، ولسنا دعاة حرب في العالم.
أطلق بوقا طويلا إلى عجوز تهم بقطع الشارع، وأزبد وأرغى على جهل الناس في قوانين المرور، ونظر في عيني الدكتور المستهجن هذا التصرف، وأعلن بطريقة خريجي السجون وأرباب السوابق وابتسامة مستهترة لا تفارق فمه: خالي.. السياسة حبالها طويلة.. والذي لا يفهم في السياسة لا يفهم في أي شيء في الحياة. ونظر في حال صديقي يستنطقه مهنته، وأردف: ما عملك يا أبو؟..
قال صديقي: رفضت أن أقول له إني أستاذ دكتور في العلوم السياسية!

[email protected]