الطخ على التحالف المدني!

مبدئياً، لن أكون في يومٍ من الأيام مؤسِّسَةً لحزبٍ سياسيٍّ، أو عضوةً فيه، وإن كنتُ أُعظّم التجربةَ الحزبيّةَ، وأتمنى تعميقَها وطنيّاً وعربيّاً. ولذا فحديثي عن (التحالف المدنيّ) بعيدٌ كلَّ البعد عن أيِّ علاقةٍ به، وإن كنتُ أحتفظُ بموداتٍ بعددٍ من مُنشئيه. ولا شكَّ أنني، مثل كثير غيري، قد دُهِشتُ من العدد الغفير الذي حضر الإشهارَ المبدئيّ للتحالف في قاعة الخوارزمي قبل يومين، مما جعلني أرى وراءَ ذلك تواصلاً جيّداً مع القطاعِ الذي ملأ القاعةَ وفاضَ عنها وهو قطاعُ الشباب. وهي بدايةٌ حسنةٌ تنبئ عن جدّيّةٍ في تناول الشأن "المدنيّ" والقضيةَ "العلمانيّة" التي تختفي وراء هذا المصطلح الملتبس. بل رأيتُ في العدد الشبابيّ تعبيراً عن توقٍ مجتمعيٍّ صارخ إلى صيغةٍ حزبيّةٍ مختلفةٍ عما ألفته الساحةُ من يمينٍ مستكلبٍ على السلطة، ويسارٍ متفتّت لا يقوى على مواجهته.اضافة اعلان
ففي الأعوام الأخيرة التي رافقت موجة ما سُمِّيَ ب"الربيع العربيّ"، كانَ من قليلِ فضائلِ هذا "الربيع" أن طفا على سطح المجتمعات العربيّة طرفانِ نقيضان هما، كما يعلم الجميع، التدعوشُ الفاتك باسم الدين، من جهة، والحريّة الفكريّة التي أفصحت عن أعمق شكوكها في كلِّ ما هو تراثٌ ودين، من جهةٍ أخرى. ويقابل ذلك في الحياة السياسيّة وصولُ الأنظمة العربيّة إلى أقصى ما تقدر عليه من طغيانٍ يتمثَّلُ في هتك كرامة شعوبها وتجويعها وتكميم أفواهها، من جهةٍ، ووصول هذه الشعوبِ إلى الانتفاضِ على الصيغتين الطغيانيتين الراهنتين وهما: طغيانُ الأنظمة وطغيان المتحدثين باسم الدين. مما مهّدَ إلى أن يأخذَ الحديثُ عن العلمانيّة والدولة المدنيّة شكلاً صريحَ العبارةِ دون تخاذلٍ أو خوفٍ، برغم تعرّضِ عدد من كتّابه للتهديد بالقتل، بعد أن قُتِلَ واحدٌ منهم فعلاً. وكان (التحالفُ المدنيّ) من نتيجةِ هذا الحراك الفكريّ الجريء.
إذن، فالتحالفُ المدنيّ بمضمونه العَلمانيّ هو نتاجٌ طبيعيٌّ للصوتِ الباحثِ في العتمةِ عما يوقدُ شرارةً تجعلُ من الممكن حرقَ هذا الكم الهائلِ من الأشواك وإنباتَ ما به تقوم الحياةُ الطبيعيّة. ولكن، ما كاد التحالفُ يعلنُ عن نفسه حتى امتلأت المنابر، يمينيُّها المتأسلم، ويساريّها الممزَّق، والحيارى بينَ بين، بخطابٍ ساخرٍ عدوانيّ طالَ بعضَ الشخصيات المؤسّسَة وتاريخَها المهني، كما طالَ غيابَ بندٍ رآه بعضُ اًصحاب هذا الخطاب سقوطاً في أحضان السلطة، وهو الفسادُ والفاسدين. ولن نستذكرَ ما فاضت به قريحة المتأسلمين حول عداء مشروع الحزبِ هذا للدين!
وإذ كان لافتاً حضورُ بعض شخصيات الحُكمِ السابقة لاجتماع الخوارزميّ، مما جعلَ من اليسير الحدسَ بأنَّ التحالفَ لن يكونَ سوى امتدادٍ للفكر السياسي السلطويّ، يعضُدُه تاريخُ بعض المؤسِّسين، فإنه لا بدَّ من التذكيرِ أن الدولة المدنيّةَ أو العلمانيّة طيفٌ واسعٌ من الأفكار والمبادئ؛ فنحنُ نجد حزب العمال ذا الميول الاشتراكيّة، وحزب المحافظين ذا الميول الرأسمالية، في نظامٍ علمانيٍّ وديموقراطيٍّ واحد، وليس أيٌّ منهما "خائناً لوطنه أو مدسوساً عليه"، فإن الصدمة التي عبّر عنها عدد من المنابر، لوجود أثرياء أو ساسة سابقين أو ليبراليين جدد أو مسؤولين عن الخصخصة، لهي صدمةٌ لا مبرِّرَ لها، لأن الدولة المدنيّةَ تتسعُ لكل الأفكار ما دامت لا تعلنُ معاداةَ القانون.
وليسَ على اليسار المصدوم والأفراد المثاليين الطموحين إلى حالة من العدالة الاجتماعية والحكم الرشيد إلا أن يشدوا الهمة ويعيدوا النظر فيما آل إليه يسارهم، والالتفاف حول هدفٍ علمانيٍّ كبير، يختلف في التفاصيل والمبادئ عما وعد به هذا التحالف، فالتجريحُ الراهنُ لن يقضيَ على هذا الحزبِ المُزمَع، وإن كانَ أداةَ هدمٍ سريعةٍ لكلِّ ذي مشروع! وليت السجالَ يتّجهُ نحو بناء معادلةٍ صحيّةٍ تلبّي نداءَ الحقبةِ، وتراجعُ أولوياتها، وليس منها الاكتفاءُ بالتنديد بالحراك الجديد. فلطالما كان الكلامُ سهلاً!
دعونا لا نفقد الأمل!