تركيا تنتصر

في غمرة الانفعالات والسجالات التي رافقت نتائج الانتخابات البرلمانية التركية الأخيرة (التي كان يُتوقَّع أن تكون حدثاً مفصلياً في تأريخ تركيا الحديث)؛ فَرَحاً بانكسار حزب "العدالة والتنمية"، وانكسار عنجهية زعيمه رجب طيب أردوغان، الذي يريد أن يجعل من نفسه الأبَ الثاني للأتراك، يستعيدون على يديه المكوّن الإسلامي في هويتهم، والذي فرّط به الأبُ الأول مصطفى كمال أتاتورك، وكان يطمح أن تقوده هذه الانتخاباتُ إلى تفويض أكبر، أو في مقابل ما سبق، حزنا على انكسار عنصر أساسي في إدارة الاحتدام القائم في المنطقة، نصير للعرب في أكثر من ملف، ولاسيما الثورة السورية... في غمرة هذا، لم نتنبه إلى الخلفية التي أحاطت بكل ذلك، وهي أن هذا كله حدث في بيئة ديمقراطية نادرة في المنطقة وثقافتها؛ انتخابات لم يشكك فيها أحد، والحزبُ الحاكم لا يفوز بالأغلبية المطلقة، كما يجري في العالم الثالث غالبا، واعتراف بالنتائج، ومساع لبناء ائتلافات تقصي الحزبَ الحاكم.. بما لا يقلّ عما يحدث في سائر الديمقراطيات الراسخة.اضافة اعلان
يجادل كثيرون بأن تركيا ما تزال تراوح في مساحة برزخية، بين ثقافتها العالمثالثية، وبين العبور إلى الديمقراطية. فالسنوات الأخيرة -مثلا- كانت عتبة حقيقية لأن يتحول أردوغان إلى شخصية تسلطية، وهو أمر تكرر -كثيرا- مع زعامات حظيت بقبول جماهيري. وهذا يعني أن الثقافة السياسية التركية ما تزال هشة وغير محصنّة ديمقراطيا؛ فالديمقراطيات الراسخة لا تخشى من زعامات من هذا النوع. لا أحد يخشى من أن يتحول أوباما أو ميركل أو سواهما، إلى شخصيات تسلطية.
من جهة أخرى، ما يزال ملف تركيا في مجال حرية التعبير فقيرا؛ فهي واحدة من أسوأ دول العالم في هذا المجال. وما يزال نظامُها الانتخابي سيئاً، فعتبة الـ10 % تعمل، في الحقيقة، على تحويل أصوات الناخبين الذين صوتّوا لأحزاب لم تبلغ هذه العتبة، إلى الأحزاب الكبرى النافذة، ما يعني -عملياً- تزوير إرادة جزء غير قليل من جمهور المصوّتين.
ويخشى كثيرون من أن روح التسلط التي استيقظت لدى أردوغان، ستمنعه من أن يقبل بنتائج الانتخابات، وأن سيناريو الانتخابات المبكرة هو محاولة للالتفاف على هذه النتائج.
قد يكون هذا صحيحا. لكنني أعتقد أن أردوغان يراهن، من وراء الانتخابات المبكّرة، على تحفيز جمهور "العدالة والتنمية"، ممن لم يشارك في الانتخابات. وإلا، قد تقود الانتخابات المبكرة إلى الأزمة نفسها. بمعنى أنه لا يفكر بإيقافٍ غير قانوني لنتائج الانتخابات.
وللمقارنة، لم يقبل نوري المالكي، في العراق، بنتائج انتخابات 2010، حين فازت "القائمة العراقية" على قائمته، وأراد التحايل عليها، بأي شكل كان. أنا أدرك أنه لم يكن بمقدور "القائمة العراقية"، أصلا، تشكيل ائتلاف يحظى بثقة البرلمان، لكن الفارق بين المالكي وأردوغان هو أن الأول كان على استعداد لاستعمال كل الأساليب لإيقاف نتائج الانتخابات والبقاء في السلطة.
لقد تحولت تركيا، خلال سنوات حكم "العدالة والتنمية"، إلى واحدة من أقوى 20 اقتصاداً في العالم، وبدأت تلعب دوراً قيادياً محورياً في سائر ملفات المنطقة؛ تحجّ إليها الدول، والسياسيون، والمعارضون، وحركاتُ التحرر، لتطلب دعمها، أو تنسق معها، أو تحتمي بها. والقضيةُ الكردية فيها، ذات التأريخ الإشكالي والدامي، شهدت تحولات كبيرة، ولكنها بطيئة وسلسة، يعدّها كثير من أصدقائي من المثقفين الكرد العراقيين، أكثرَ أهمية من التحولات الراديكالية التي شهدتها القضيةُ الكردية في العراق. التحولاتُ الكردية في تركيا انتهت إلى جلوس حزب كردي تحت قبة البرلمان التركي، بهويته الكردية، لا مذوَّبا في هويات أخرى.
يبدو أن "العدالة والتنمية" آمن بأن قوة تركيا لن تأتي من هذا فقط، بل كذلك من إرساء تقاليد ديمقراطية حقيقية. ها هي تركيا تغادر مساحةَ التردد والبرزخ الذي قبعت فيه طويلاً.
لقد غُرر بنا كثيرا بالتنظيرات التي تتحدث عن التفاتة تركيا إلى الوراء، إلينا، نحن العرب، مصدر هويتها الإسلامية. لكن، يبدو أن تركيا لم تعد من طينتِنا، طينة الظلام والاستبداد والصوت الواحد.. تركيا باتت من طينة أخرى، بكل تأكيد.