حربُ الأطفال المُظَفّرة

سجّل أطفال بيت لاهيا في قطاع غزّة قبل أيّام، رقماً قياسيّاً جديداً أدخلهم في موسوعة غينيس، وذلك حين أطلقوا 7202 طائرة ورقيّة مرّةً واحدة في سماء القطاع، وبذلك فقد استطاع أطفال غزّة أن يكسروا الرّقم القياسي الذي سجّلته الولايات المتّحدة الأميركية في وقت سابق.

اضافة اعلان

نقلت الأنباء عن الأطفال فرحتهم بهذا الحدث، ورغبتهم في العيش بسلام في أرض آبائهم وأجدادهم، بعيداً عن شبح الحرب الذي يتهدّدهم من قِبل أعدائهم، خصوصا ما تسبّبه الطائرات الحربية الصهيونية لهم من دمارٍ وموت.

الطائرة الورقيّة مقابل الطائرة الحربية، تلك هي حرب الأطفال المظفّرة: حرب الحياة في مواجهة حرب الموت.

ففي حين يحمل الطفل الفلسطيني طائرته الورقية البسيطة، ويختار مكاناً عالياً، سطح بيت أو تلّة، ليطيّر طائرته، يصعد القاتل الصّهيوني طائرته المعدنية، بعد أن يكون قد تفقّد حمولتها من الصّواريخ والقنابل، وينطلق بها إلى السّماء. الطفل يكون في أوج نشوته، وهو يمد للطائرة مزيداً من الخيطان، وكلّما علت فرح أكثر، لأنّه يعتقد أنّه لا يقودها من على سطح الأرض وإنّما يقودها من علٍ ويمخر بها عباب السّماء.

الطيّار الصهيوني يتجوّل بطائرته المعدنية بسرعة بالغة، وبكامل الرعونة والبلطجة. طائرة الطّفل الورقيّة طائرة وديعة، لا تؤذي حتى الهواء الذي يرفعها، إنّها حلم أو فكرة أكثر من كونها جسماً ماديّاً محلّقاً. الطائرة الحربية طائرة منفّرة تشبه إلى حدّ كبير الحيوان المفترس، الضبع أو الخنزير! الطائرة الورقية تتهادى بسلام وسط تلك الزرقة الكاسحة. الطائرة الحربية تهوي من عليائها لتفترس النّاس والبيوت والأشجار. بضربة واحدة على الزّر تتنزّل القذائف والصواريخ، لتبطش بالإنسان والحيوان، وتحيل الحياة على الأرض إلى شكل من أشكال الجحيم.

حتى هذه اللعبة البسيطة قد لا تُعجِب السفّاح الصهيوني، خصوصا إذا ما حملت الطائرات الورقية بعض الأفكار التي لا يرضى عنها هذا السفّاح، كأن تتلوّن الطائرات بألوان العلم الفلسطيني، وفي هذه الحالة ربّما يوظّف الصهاينة آلتهم العسكرية في مواجهة طائرات الأطفال الورقية!

قبل هزيمة حزيران العام 1967، وعندما كان يحين وقت العطلة الصّيفية، كنّا أطفالاً وفتيانا ننهمك في التحضير لمهرجان الطائرات الورقية، حيث كنا نقيمه على رأس جبل مرتفع اسمه (الكفيرة). كانت الكفيرة تطلّ على الأرض المحتلة العام 1948، وتحديداً على أراضي قرية أبو غوش المقابلة، وعلى منطقة المستعمرات الصهيونية التي أقامها المحتلون على الأرض العربية هناك، وأطلقوا عليها اسم (معالي حمشاه).

كان الاقتراب من الحدود أمراً في غاية الخطورة، وكان الجنود الصهاينة يطلقون النار على كلّ جسم يتحرّك بالقرب من تلك الحدود المصطنعة التي قسّمت الوطن الفلسطيني الواحد، وهكذا فقد كانت فكرة إطلاق عدد من الطائرات الورقية التي يمكنها أن تخترق الحدود فكرة تروق لنا. لقد كان بإمكاننا أن نحلّق في فضاء ذلك التراب المحتلّ، وأن نستعيده ولو لبضع لحظات استعادة رمزية.

في شهر أيار من العام 67 أقمنا الحفل الأخير. بدأ الحفل بصافرة نفخ فيها رئيس لجنة التّحكيم، فانطلقت الطائرات في السّماء. بعضها حلّق بعيداً، بعضها انقطعت خيوطه، ولم يُعرف له مصير، لكنّ المهم أنّ عدداً من تلك الطائرات وصل منطقة المستعمرات. ضجة مباغتة حدثت بيننا حين سمعنا بإطلاق الرّصاص، لقد قال البعض إنّ الجنود الصّهاينة قد أطلقوا النّار على الطائرات التي اقتربت من المستعمرات، وإنهم قد أصابوا طائرة (محمد سليمان).

مزيداً من الطائرات الورقية يا أطفال غزّة، مزيداً من حبّ الحياة.