سقى الله أيام زمان

في الجدل الدائر بين الشعب والحكومات، تظهر مسألة خلافية حول تفخيم وتكبير القضايا الصغيرة وتحجيم وتصغير القضايا الكبيرة، ويبدأ التساؤل حول هذه الحقيقة. فمنهم من يقول إن الحكومات تعمد، في بعض الأحيان، إلى إرسال وتكريس قضايا صغيرة جداً، كحادثة أو مشاجرة أو قصة إخبارية عادية، إلى المطبخ الإعلامي الحكومي، بينما هي تحجب الأنظار عن قضايا مهمة ومصيرية؛ أو تحاول تشويش الأفكار حولها وتشتيت التركيز عليها. وأحياناً يقال إن الشعب نفسه، وحده، ينتبه لقضايا صغيرة جداً، لا تخطر على البال، مثل فتاة الخس، ويترك بضع قضايا مهمة تتعلق بمستقبله ومصيره وتؤثر بشكل خطير في مسيرته. فأيهما صحيح؟

اضافة اعلان

هذا الخلاف يظهر في كل المجتمعات، الديمقراطية وغير الديمقراطية، المتقدمة والمتخلفة، الغنية التي تمتلك موارد كبرى والفقيرة التي لا تمتلك شيئا، الدائنة والمستدينة، المثقفة والجاهلة، ومن دون استثناء.

الاحتمال الأول له وجهان، فإما أن تكون الحكومات فعلاً تخطط لتشتيت الانتباه عن قضايا مهمة محرجة، لتمنح نفسها بعض الوقت لبحث القضايا المهمة وعلاجها، أو حتى تلوح أذيال نسيانها من قبل الشعب، أو أنها لا تفعل ذلك بل يتولى عتاولة التحقيق في نظرية المؤامرة والسيناريوهات المعدة سلفاً، وهؤلاء موجودون في كل المجتمعات، هذه المهمة، فتجدهم ومنذ اللحظة الأولى، من تكبير أي قضية صغيرة، يتساءلون عن القضايا الكبيرة، ويحذرون أن الحكومات تفعل ذلك عن قصد، ويؤشرون إلى العلامات التي تدلل على ذلك، وهم في معظم الأحيان، غير متأكدين، إن كانت نظرية المؤامرة حقيقية أم لا، فكل ما يهمهم أن يبقى الشعب منتبها إلى مواضيعه الرئيسة، متكاتفاً حولها، مركزا على اتجاهها واحداثها وما يجري لها.

والاحتمال الثاني له وجه واحد فقط، فإذا ظهر مجتمع كامل مهتم بقضايا صغيرة، وبشكل دائم، يكون الشعب، لا محالة، قد فقد الأمل من حل القضايا الكبيرة، كالفقر والبطالة وغلاء المعيشة، أو قضايا قومية كاحتلال فلسطين، فراح يعيش يومه وينظر في القضايا الصغيرة ويشبعها بحثاً وتأويلا، "ويعيد ويزيد فيها"، لكنه لا ينسى قضاياه الكبيرة، فتنظر عقب كل جلسة أو نقاش، مع "هزة في الرأس" أن السبب الرئيس للقضايا الصغيرة هو عدم حل القضايا الكبيرة.

في المناطق الساخنة سياسيا، كالشرق الأوسط، يبرز الاحتمالان معاً. فالحكومات لديها الكثير من القضايا المحرجة والصعبة، المهمة والمؤثرة، فتضطر أن تدفع بالقصص الصغيرة إلى الشعب اليائس البائس، أو يتولى بعض المتبرعين، من دون تكليف، إنقاذها ومساعدتها مجاناً، ويبدأون "اللت والعجن" في قضايا ثانوية أو عادية، ظناً منهم أنهم يقدمون خدمة كبرى لتلك الحكومات. وكذلك فالشعب هنا، لا يستطيع الحديث، في كل وقت، بمواضيع قديمة، ليس لها حل، بل يحاول الناس البقاء على اتصال مع الأحداث الصغيرة كافة، وفي نهاية كل نقاش، يهزون رؤوسهم، فيقول البعض: طيب شو تعمل الحكومة؟ عليها ديون وما عندها موارد. أو يقولون: سقى الله أيام زمان.