عبرة الأرجنتين للعرب!؟

قبل أيام قليلة تذكّر البريطانيّون والأرجنتينيّون حرب جزر الفوكلاند، أو المالوين، التي انقضى عليها خمسة وعشرون عاماً بالتمام. وهي حرب قد لا تكون مهمّة بمعانيها العسكريّة، أو بنتائجها السياسيّة الكونيّة. فقد جرت، بعد كلّ حساب، في أحد أطراف العالم، فلم تترك تأثيراً بيّناً على حياته الاقتصاديّة، ولا سقط فيها من القتلى عدد ضخم، فضلاً عن أنها عسكريّاً لم تخالف المتوقّع، نظراً الى حجم التبايُن في توازن القوى بين بلد كبريطانيا (مدعوم من الولايات المتّحدة) وبلد كالأرجنتين.

اضافة اعلان

مع هذا، تكتسب تلك الحرب أهميّتها من كونها دارت بين طرفين واحد متقدّم وديمقراطيّ وآخر متخلّف وعسكريّ استبداديّ. وفي المعنى هذا، لا يمكننا كعرب، إلا أن نلاحظ أوجه الاختلاف بين تلك الحرب ونتائجها وبين حروبنا ونتائجها، سيّما وأننا في العام نفسه، 1982، شهدنا الغزو الإسرائيليّ للبنان واحتلال بيروت الذي مثّل الاحتلال الأوّل تخضع له عاصمة عربيّة في التاريخ الحديث (وكان الثاني احتلال الكويت على يد جيش صدّام، والثالث احتلال بغداد على يد القوّات الأميركيّة... وهو مسار غنيّ الدلالات).

لكنْ لا بأس، أوّلاً، ببعض المعلومات، التي لا بدّ أن الذاكرة طوتها، عن حرب جزر الفوكلاند التي تشمل مجموعتي جزر كبرى والكثير من الجزر الصغرى في جنوب المحيط الأطلسيّ شرق الأرجنتين.

فالراهن أن موضوع ملكيّة هذه الجزر هو ما آثر الطرفان البريطانيّ والأرجنتينيّ تعليقه تبعاً للخلاف في صدده، على أن يتمّ بتّه في وقت ملائم. بيد أن بوينس أيريس حاولت أن تفرض بالقوّة رؤيتها للملكيّة فقامت، في 19 آذار (مارس)، باحتلال جزيرة جورجيا الجنوبيّة ومنها تقدّمت، في 2 نيسان (ابريل)، الى الفوكلاند، معتبرةً أن عملها هذا إعادة احتلال لأراضٍ احتُلّت منها. وبدورها صنّفت لندن العمل العسكريّ الأرجنتينيّ غزواً لمُعتَمَديّة بريطانيّة. ففي مقابل الحجّة الأرجنتينيّة التي تركّز على الملكيّة التاريخيّة للأرض، تركّز الحجّة البريطانيّة على رغبات السكّان هناك، وهم أوروبيّون بدأ توافدهم على تلك الجزر في 1690، وفي 1764 أقاموا أوّل مستعمرة لهم في تلك المنطقة غير المأهولة. ولأجل "حماية خيارات السكّان"، على ما تؤكّد لندن، أقامت إنكلترا، منذ 1833، حامية بحريّة تتمركز في الفوكلاند وحولها.

على أيّة حال فالسبب الفعليّ للغزو ولتوقيته كان الأزمة الاقتصاديّة الخانقة التي عصفت ببوينس أيريس مصحوبة بمعارضة متعاظمة لحكم الطغمة العسكريّة التي تسوس البلد بالقمع والصلف. وهذا إنما بدا تتويجاً لسلوك الطغمة منذ إطاحتها إيزابيل بيرون في 1976 واستيلائها على السلطة: ففي مواجهة حرب العصابات التي كانت تشنّها شلل اليسار المتطرّف، اتّبعت الديكتاتوريّة العسكريّة إجراءات بالغة القسوة ضدّ المعارضين جميعاً فيما اعتمد جيشها مبدأ "الحرب الإيديولوجيّة" لتصفية القاعدة الاجتماعيّة للمتمرّدين. وهو ما أفضى، عمليّاً، الى تصفية العديد من طلبة الطبقة الوسطى ومن المثقّفين والنقابيّين الذين كانت قلّة قليلة بينهم على صلة فعليّة بحرب العصابات. ولئن نجحت هذه التكتيكات، أواخر السبعينيات، في القضاء على التمرّد، إلاّ أن كلفتها الانسانيّة بدت باهظة جدّاً، فضلاً عن أخذها الأبرياء بجريرة المتّهمين. هكذا ارتفعت، بنسب غير مألوفة حتى ذاك الحين في الأرجنتين، أعداد ضحايا "الحرب القذرة"، على ما سُمّيت حملة الطغمة على المجتمع: فإذا كانت جرائم رجال العصابات قد أودت بما قُدّر بـ1500 قتيل، فإن من سقطوا بنار النظام، أو اختفوا على يد أجهزته، بلغ عددهم الـ11 ألفاً.

وقصارى القول إن الحكومة العسكريّة برئاسة الجنرال ليوبولدو غالتييري قرّرت أن تزجّ بالمشاعر القوميّة، فتوحّد الأرجنتينيّين من ورائها، مهمّشةً المعارضة وملتفّة على الأزمة الاقتصاديّة وعلى آثار "الحرب القذرة"، ظنّاً منها أن بريطانيا لن تلجأ الى الردّ العسكريّ. ومن دون الدخول في تفاصيل المعارك، انتهت الحرب باستسلام الأرجنتين في 14 حزيران (يونيو)، فكُتبت، على نحو مُذلّ، نهاية التبجّح القوميّ – العسكريّ، ووُضع حدّ لتلك الطريقة في إعلان الحروب تجنّباً لمواجهة المشكلات الداهمة.

صحيح أن الأرجنتينيّين لا يزالون حتى اليوم يؤكّدون، في دستورهم الوطنيّ وفي مواقف سياسيّيهم، على "أرجنتينيّة الجزر"، غير أن هذا بات أقرب الى الموقف المبدئيّ والتاريخيّ الذي يشبه إعلان المغرب "مغربيّة سبتة ومليليّة"، أو تأكيد سورية على "سوريّة لواء الاسكندرون"، من غير افتراض الحرب في الحالتين، قريباً كان هذا الافتراض أم بعيداً.

وهذه كانت إحدى النتائج الجيّدة التي نجمت عن الهزيمة. أما النتيجة الأخرى فكانت في انقلاب الحماسة القوميّة التي أطلقها الضبّاط ضدّ البريطانيّين فارتدّت عليهم بعد انكسار جيشهم. هكذا عُجّل في سقوط الطغمة واستعادة الحياة الديموقراطيّة للأرجنتين. فتبعاً لضغط قويّ ومتواصل أبداه الرأي العامّ، رُفعت القيود عن العمل الحزبيّ والسياسيّ، واستعيدت الحريّات الأساسيّة في صورة تدريجيّة إنما متسارعة. وبالفعل، ففي 30 تشرين الأوّل (أكتوبر) 1983 وجد الأرجنتينيّون أنفسهم يتّجهون الى صناديق الاقتراع ويختارون رئيساً مدنيّاً جديداً هو راؤول ألفونسين الذي لم ينل أكثر من 52 في المائة من الأصوات، على ما يليق بالديموقراطيّات.

لقد افتُتحت صفحة جديدة في التاريخ الأرجنتينيّ، صفحة بلا حروب، وبلا استخدام للحروب والمشاعر القوميّة في سبيل أغراض أخرى. أليس ثمّة ما نتذكّره عندنا ونحن نقرأ عن الأرجنتين؟ أليس ثمّة ما نسمعه قادماً من طهران يذكّرنا بالجنرال غالتييري وطغمته؟

كاتب لبناني