"فطر" بالأحمر!


كما كان شهر الصوم والبركات، كذلك يأتي عيد الفطر مخضبا بالأحمر هذا العام؛ على وقع إجرام الدواعش الذين حشروا العالم أجمع بين مطرقة الإرهاب والعمليات الانتحارية (والتي يسمونها "انغماسية") وبين سندان حروب التحرير والهجمات الاستباقية أو الانتقامية التي تشن ضدهم على قاعدة العين بالعين والسن بالسن.اضافة اعلان
فبينما ينهمك المؤمنون باستقبال عيد الفطر بالصلوات وصلة الرحم، تتعاظم ضريبة الحرب الدولية على تنظيم "داعش" بعد عامين على انطلاقها بقيادة أميركا. والآن يشتد أوارها، وصولا إلى فك قبضة التنظيم عن أجزاء واسعة من الأراضي التي احتلها في جوارنا العراقي والسوري، في إطار حملة شاملة لتطهيرها كليا من هذه العصابات الإرهابية قبل نهاية العام.
ولهذا كان لون رمضان مختلفا هذا العام.
في شهر البرّ والإحسان والتهجد، توارى الدواعش وأنصارهم خلف عباءة تفسيراتهم للدين، فأمعنوا قتلا وتدميرا من دون تمييز. واختطف حقدهم الأعمى نساءً وأطفالا قبل الرجال. شاركت في عمليات القتل العشوائي "ذئاب منفردة" انطلقت من جحورها حاملة فيروس الذبح والسلخ من دون سابق إنذار.
من حانة للمثليين في الولايات المتحدة، إلى مطعم يرتاده أجانب ومغتربون في بنغلادش ومطار للمدنيين في تركيا، إلى متسوقي العيد في سوق بمنطقة الكرادة الراقية في بغداد. ومن الكويت إلى السعودية، فلبنان وتونس ودمشق. وكذلك في الركبان، وقبله البقعة، وقبلهما الموقر في الأردن.
ومضات التفجيرات وأخبار العمليات الانتحارية الجماعية أو الفردية باتت جزءا من سنّة الحياة. ومن المستبعد أن تنضب شلالات الدماء المخلوطة بأشلاء الأبرياء على وقع نحيب أهالي الشهداء ولوعة أبنائهم وبناتهم.
يعيش العالم بأسره -بقطاعاته الرسمية والشعبية- أقصى حالات الاستنفار داخل أقفاص من الخوف والقلق على الحاضر والمستقبل. كل منا بات يشعر كل دقيقة أنه مستهدف شخصيا في أمنه وحياته ومستقبل أبنائه وبناته.
الحبل على الجرار ليل نهار. فالدواعش يستعرون في الضرب خبط عشواء من أجل البقاء. يستخدمون أحزمة ناسفة وأسلحة هجومية وسيارات وشاحنات مفخخة لا تميز بين أهداف عسكرية ومدنية وبين أتباع الأديان والمذاهب والأعراق.
جنون "داعش" الأخير جزء من ضريبة الحملة العسكرية على الإرهاب في العراق وسورية، فضلا عن عشرات العمليات الخاصة النوعية ضد أهداف مماثلة خارج نطاق الجوار وبمشاركة قوات نخبوية وأجهزة استخبارية غربية وعربية لضرب جحور التنظيم في ليبيا والصومال وغيرهما.
كيف سيتعايش الأردنيون مع واقع جديد على خلفية مسلسل الاستهداف الداعشي؛ بدءا بالجريمة بحق الشهيد الطيار معاذ الكساسبة، مرورا بهجوم إربد لإجهاض عملية إرهابية كان مخططا لها أن تطال أهدافا مدنية، وصولا إلى هجوم الركبان الإرهابي الذي أدى إلى استشهاد سبعة من جنودنا البواسل؟
يتطلب ذلك بالتأكيد إعادة قراءة الواقع الداخلي والإقليمي، لاسيما أن الأردن -حال تركيا ولبنان- يظل الأقوى ترشيحا لعمليات داعشية تستهدف تعويض خسائر التنظيم في معاقله.
علينا أولا، كرسميين ثم كمواطنين، الاقتناع بأننا نعيش منذ عامين في حالة حرب على الإرهاب، مفتوحة على الاحتمالات كافة، منذ أن أنضم الأردن للتحالف الدولي. علينا أن ندرك بأن جيشنا ومؤسساتنا الأمنية في أقصى حالات الاستنفار، وتعمل على مدار الساعة لمواكبة تعاظم التهديدات الإرهابية شكلا ومضمونا.
لكن غالبية المسؤولين تتصرف وكأن العرس عند الجيران. حال التعتيم الإعلامي على المشهد السياسي والأمني لم تعد مفيدة. وفي هذه الأجواء، تنتشر الشائعات كالنار في الهشيم، بينما يستغل مروجوها تقارير إعلامية أجنبية ومواقع التواصل الاجتماعي المتحررة نسبيا من القيود المفروضة على وسائط الإعلام التقليدي. وبذلك تختلط الآراء بالحقائق وتسري الشائعات، بما تحدثه من بلبلة وخوف وقلق على الحاضر والمستقبل.
دول العالم قاطبة باتت تحذر رعايها من السفر إلى بقاع عديدة في العالم. العديد منها شرعت في تغيير خطابها الثقافي والتعليمي، وخصوصا الشوائب المتطرفة في محتوى الخطاب الديني. لكن حكوماتنا تستمر في سياسة الصمت المطبق، وكأنها لا تدرك بأن العالم بات غير آمن. حال الحكومة السابقة لم يكن أفضل بعد أن أوهمتنا عقب استشهاد الطيار الكساسبة بأنها ستطبق سريعا استراتيجية تشمل تطوير محاور التربية والتعليم والخطابة والرقابة على المساجد وتنوير الشباب لمواجهة تمدد أيديولوجيا "داعش" في عمق الوطن، بروافع الحواضن الاجتماعية والثقافية المنغلقة التي تعمل على غسل أدمغه الناس، وكذلك البيروقراطية المحافظة وتنامي نفوذ التيار السلفي المتشدد في المجتمع.
ولكن أيا من المسؤولين لم يطلع الشعب الأردني على هذه الاستراتيجية. وقبل أسابيع صدمنا عندما أظهر لنا تقرير الأمن القومي الأميركي للعام 2015 أن استراتيجية مكافحة الإرهاب الداخلي فشلت بسبب التلكؤ وتداخل الصلاحيات وقلة صرف المخصصات. عديد كتّاب وباحثين تنبأوا بهذه النتيجة، دون أن يحاسب أي مسؤول على التقصير الفادح الذي أضاع سنة من معركة صراع البقاء مع فكر "داعش" المتغلغل في أحشاء المجتمع. ردود أفعال الحكومة لم تذهب أبعد من تعميق الخيار الأمني، إلى جانب إصدار بلاغات قضائية تمنع الإعلام من تغطية أحدات مفصلية ومعاقبة نشطاء منصات التواصل الاجتماعي ولوم ديمغرافية اللجوء.
لن تتمكن الحكومة من احتواء خطر التطرف إلا إذا حلّلت جذور المشكلة وأخرجتها للعلن في مسعى صوب حلول جذرية بدلا من مساحيق تجميل هامشية.
المعركة الفكرية ضد أيديولوجيا التطرف الداخلي لم تبدأ بعد. هذه المعركة تمس المناهج وتدخل في أدبيات الفكر الديني المتطرف، كما تتصل بمفهوم الدولة والحاكمية والمواطنة واستقلال القضاء. ويجب بسط الشعور بالعدل وصون كرامة الفرد وبناء المؤسسات ومحاربة الواسطة والمحسوبية والفساد الصغير والكبير. ولا بد من تطهير وزارة التربية والتعليم والأوقاف والمقدسات الإسلامية ممن يكفرون الدولة في الباطن أو في العلن، أو من الذين ينتمون لجماعات منغلقة ومتشددة، أو يعملون وفق قناعات فردية منعزلة. تلكم العناصر داخل الدولة تقف بالمرصاد لكل محاولة لتحديث المجتمع، بدعوى حماية الدين وما يدعوّن أنه قيم الغالبية أمام هجمة أقلية تنتمي لمدارس الحداثة والليبرالية!
حان الوقت لطريقة إدارة جديدة لحياتنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية، لا تكتفي بالحديث عن التحديات الآنية، بل تعتمد إطارا فكريا جديدا يستوعب جبالا من التحديات الهيكلية. آن أوان ظهور مسؤولين يملكون الجسارة والإرادة لتنفيذ خطط واضحة بدلا من الإدعاء بالإصلاح ثم مقاومته، داخل حلقة مفرغة. ولا بد من مخاطبة الرأي العام المحبط بشفافية من خلال تفاصيل وحقائق وليس تخوين الناس أو تخويفهم.
من دون محاصرة فجوة الثقة المتمددة وتسمية الأشياء بأسمائها وتنفيذ الوعود، لن تتحصن الجبهة الداخلية التي تحمي الدولة.
الأشهر الأربعة المقبلة مليئة بالتحديات: ترجمة متطلبات اتفاقية الحكومة مع صندوق النقد الدولي بأقل التكاليف السياسية الممكنة، ترجمة مخرجات لقاء لندن للدول المستضيفة للاجئين السوريين، وإجراء الانتخابات التشريعية ثم اللامركزية، استضافة قمة كرة القدم النسوية بمشاركة 1000 صحافي، وإعادة حساب تحالفاتنا الإقليمية والدولية تمهيدا للتعامل مع مرحلة ما بعد هزيمة "داعش" العسكرية واستكمال الحرب الفكرية مع التنظيم الإرهابي. 
بخلاف ذلك قد ينهزم "داعش"، لكنه سيستبدل بنسخة معدلة أكثر جنونا وتكفيرا وفجورا.
دخلنا منعطفا قد يكون الأخطر منذ نشأة الأردن الحديث. هي الحرب إذن على عدّة جبهات، سعيا لتثبيت الأمن، والاستقرار ومكافحة الفقر والبطالة وثقافة الموت والكراهية للآخر الذي لا يشبهنا.
والأمل دائما أن نكون جميعا بحجم التحدي.