في ما خصّ التعدّد

كان اللبنانيّون من بين أكثر الشعوب حديثاً عن التعدّد وتمجيداً لفضائله وميزاته. فقد كان القول الشائع لديهم إن بلداً يضمّ عدداً كبيراً من الطوائف الدينيّة والمذاهب والثقافات الفرعيّة قادر على التلوّن والإبداع بأكثر مما يستطيع بلد قليل التعدّد. لا بل وُجد من يقول إن تعدّداً كهذا يسهّل عمل الديمقراطيّة إذ يستحيل، والحال هذه، فرض وجهة نظر واحدة، أو سيناريو واحد للحياة، على هذا الكمّ المختلف المدعوّة أطرافه الى أخذ بعضها بعضا في الاعتبار. كما يصعب سوس الجماعات بحكم عسكريّ طريقه الانقلاب والاستبداد.

اضافة اعلان

والحجّة تلك صحيحة نظريّاً، بل صحيحة عموماً. فالتعدّد، بالطبع، عاصم من الاستبداد والرأي الواحد. وهو يوفّر، في العلاقات المجتمعيّة، مادّة تدريب على الديمقراطيّة تسبق تجريبها في الحياة السياسيّة والحزبيّة. وهذا فضلاً عن أن التعدّد يكسر ضجر الحياة في ظلّ لون واحد ويطيح رتابتها وتكراريّتها القليلة الابداع والتجرّؤ.

مع ذلك فالسؤال الذي لم يطرحه اللبنانيّون إلاّ متأخّرين: لكنْ ماذا إذا لم يترافق الوعي بالتعدّد مع واقع التعدّد؟ فقد تعيش جماعات عدّة معاً فوق رقعة أرض واحدة من دون أن تدرك أن ما تفعله عمل عظيم بذاته، لا بل قد تعيش معاً فيما كلّ واحدة منها تشتهي العيش وحدها وترغب في ألاّ يكون لها هذا الجوار المختلف عنها الذي فرضه عليها التاريخ والجغرافيا.

بلغة أخرى، إذا ما اقترن التعدّد الواقعيّ بفكرأحاديّ، مطلق الإيمان بحقائقه، آلت التجربة الى الاخفاق وربّما الى استحالة الحاكميّة والسياسة وشيوع الحروب الأهليّة والفوضى. وهو ما نجده اليوم في لبنان والعراق والسودان ويوغوسلافيا السابقة وقبرص وغيرها.

فالتعدّد، من ثم، لا بدّ، كيما ينجح، من أن يأتي مصحوباً، أو، أقلّه، متبوعاً، بوعيه وإدراك معانيه ودلالاته الإيجابيّة. وهذا إنما يرقى الى ثورة ثقافيّة وفكريّة تجعل الأطراف المعنيّة بالأمر تشذّب تصوّراتها الدينيّة أو الاثنيّة كيما تستطيع التعايش مع شركاء في الوطن لديهم تصّورات دينيّة أو اثنيّة أخرى.

وفقط في هذه الحال يمكن الارتقاء في طرح مسألة التعدّد من النطاق الدينيّ والاثنيّ الى النطاق الايديولوجيّ والسياسيّ بالمعنى الحديث، حيث يُفتح الباب واسعاً لبلورة حياة برلمانيّة تدور لعبتها بين مختلفين.

ولنقل صراحة إن تجاربنا على هذا المستوى فشلت، أكان في لبنان أم في العراق، لا بل فشلت في الكثير من بلدان "العالم الثالث" حيث لم يقترن واقع التعدّد، الموروث والطبيعيّ، بوعي التعدّد وأهميّته. ولضرب مثال عمّا يعنيه الوعي المذكور، يمكن الاستشهاد بتظاهرة شهيرة قادها، ذات مرّة، فرنسيّون مناهضون للعنصريّة ومعادون للمطالبة بترحيل المهاجرين. فقد رفعت التظاهرة تلك شعاراً موجّهاً للعمّال الأجانب يقول: "لا تتركونا وحدنا مع الفرنسيّين". ومؤدّى المناشدة تلك أن العيش من دون تعدّد، في ظلّ لون واحد، بؤس على من يعيشه.

عكس هذا هو واقع حالنا مع التعدّد الذي لا تزال أكثريّاتنا تعامله كأنّه عبء يُستحسن التخلّص منه أو حتّى استئصاله (على طريقة التطهير الذي شهدته، وتشهده، مدينة بغداد مثلاً).

والانتقال من هذا الطور الى الطور الفرنسيّ يستدعي عدداً من المحطّات في عدادها انكسار الايديولوجيّات الحدّيّة، القوميّة والدينيّة وغيرها، ونشوء فكر نفعيّ يحلّ محلّ الغرائزيّ ويدرك أن اختلاط الجميع قابل لأن يرتدّ فائدة عليهم جميعاً، فضلاً عن التسليم العامّ بسيادة القانون ومؤسّسات التمثيل الشعبيّ.

وعلى هذا، يكون الأفضل، ما لم نحرز هذه السويّة من الوعي، ألاّ نتعدّد. ذاك أن التعدّد، من دون وعيه، طريق قصيرة الى الدم والاحتراب. وأحسن للجميع ألاّ تراق الدماء، بل أن يُمتحَن الواقع بالتدريج علّه، مع السلم واسترخاء الأعصاب، يفرز أفكاراً تحلّ محلّ الأفكار الحاليّة والبائسة. 

كاتب لبناني