هل غادر الملح الأزرق؟

 حدثتنا كتب الجغرافيا عن الواحات في الأردن فكانت هي مثال الدرس، لكنها اليوم مثال الجفاف، أرضها كانت تهدي الملح للناس واليوم تدخلهم باب الحيرة، مدينة دفنتها سياسات التخبط وانعدام التخطيط.

اضافة اعلان

السهم قريبا من مبنى التلفزيون يشير إلى الأزرق المدينة، تسير إليها وتمضي بين حد البادية والحضر، تصلها وتجد أن ثمة نسيانا كبيرا يصلح سببا كي تثار الأسئلة، والأزرق المدينة الأسمح دينا وثقافة، هناك ثمة ازرقان شمالي وجنوبي، الأول استوطنه وبناه بنو معروف، المعرفون بانتمائهم للعروبة وللوطن، وأما الجنوبي فعمره الشيشان ومعهم أبناء البدو وجميعهم كانوا يقدمون درس الانتماء والحب والتعدد كقيمة في هذا الوطن.

الأزرق لم تأت يوما باللامتوقع، ومع ذلك حين ضاقت الدنيا وجفت واقتربت الواحة من الجفاف وأنّ الناس من الفقر ومزاحمتهم برزقهم في انتاج الملح، ظلت كما هي على حبها ويقينها بأن التغيير مقبل.

زيارة الملك لها العام 2008 حملت جزءا من التغيير، افتتح يومها أربع مدارس ومشروعا تنمويا سياحيا وبعض مشاريع خدمية أخرى، لكن بعد نحو عامين ما يزال الناس ينقصهم الكثير، وهم بحاجة لمن يسمع مطالبهم، حتى وإن كانت عسيرة التحقيق فالناس هناك يحترفون الصبر بحكم جيرتهم التاريخية مع الملح ونبات المرّ الصحراوي.

1200 - 1300 أسرة حرمت من ممارسة رزقها جراء إثقال جمعية الأزرق إنتاج الملح بالديون البالغة نحو مليونين، وعند سؤال أهلها عن سبب ذلك الدين عزوه لعدم قدرة الجمعية على منافسة إنتاج ملح الصافي الذي نافسهم بشدة لرخص تكاليف إنتاجه، ولكن من الذي استفاد اخيرا؟ الشريك الاستراتيجي في ملح الصافي وفي المقابل زاد فقر أهل الأزرق.

إلى الأزرق طريق شواهده حاضرة، وفي داخل المدينة قلعتها التاريخية وعلى مقربة منها قصور بني أمية، وفيها افضل امكانيات السياحة التاريخية، لكن شيئا من ذلك لا يفيد، إما جراء العجز عن تطوير المنتج أو لعدم القدرة على جذب الزوار، او بسبب النسيان من قبل المسؤولين الذين اشبعونا في الحكومات المتعاقبة عرضا الكترونيا ومشاهد افتراضية لم تأتِ إلا بالمزيد من الحيرة، لذا فانت هناك تشعر أن السير للأزرق كالذهاب إلى الأم التي نذهب إليها ذهاب البالغين إلى طفولتهم التي انقضت، دونما احساس بتلك الطفولة المليئة بالفقر، او حتى من دون رغبة بتذكر الزمن القاسي.

التاريخ نعم هناك، والذهاب إلى الأزرق يشعر المرء أنه يخطو في رحلة البلوغ، كتلك التي ينتقل فيها المراهقون من الطفولة إلى الرشد. هنالك تجد قلعة من الصبر وذاكرة الملاحين، فقط هناك الملح كان سببا للقمة العيش، بيد أنه كان ولم يعد، هناك رحلة في الجغرافيا والهجرة، هجرة الطيور وهجرة القبائل والجامعات التي صنعت مدينة خاصة ومميزة.

الأرزق ليست قريبة من عمان "عالم اليقظة"، لذا تغيب عنها الحكومات مع انها مدينة مفتوحة والطرق اليها يسيرة، لكن حتى هذه الطرق ما يزال قسم منها بحاجة لإصلاح. والمفارقة الغريبة أن تستبدل المدينة وجهها الأبيض من الملح وقلبها المفتوح على بادية الشام ونجد، لتصبح شرايينها مغلقة تتجه نحو قلب ربما أنه شارف على الموت.

أخير الأزرق المدينة البالغة المعلّمة للواقع بلا هوادة، تقدم لزائرها درساً في التواضع لمجرد تفكيره بأن يقيس جسده الغريب بحجم صبر أهلها على موت أرض الملح، القريبة جدا من أرض البترول.

[email protected]