وليمة الحجر

حين رأيتها أول مرة، خيّل إلي أنني أعرفها منذ زمن بعيد، وأنها واحدة من منحوتاتي التي ربما أنجزتها في الألف الثالثة قبل الميلاد.. إن ضربات إزميلي مازالت واضحة منذ ذلك الزمن، خاصةً في منطقة الخدين الطويلين السائلين مثل شلالي نار.

اضافة اعلان

الأكثر من ذلك هذا الجرح الغائر أسفل الذقن إذ يبدو لي أنني سهرت عليه طويلاً وأنه أرقني قبل أن أتمكن من نحته بأظافري على هذا الشكل الحاذق! كل شيء كان يشي بذلك الرعب الذي خلّفته أصابعي وأعصابي في تفاصيل هذا الحجر الشفاف الذي يقف الآن أمامي ويلقي علي نظرته السريعة كما لو كان يراني سهواً، وكما لو كنت واحداً من الفضوليين الذين لا علاقة لهم بمجرى حياته. ه

ل ما حدث معي كان حلماً عابراً من أحلام اليقظة؟ هل كنت أتوهم؟ إنني لا أعتقد ذلك، إذ إنها هنا تتألق بكامل فتنتها أمامي، وها إن دمها يتأهب للطيران.. ثمّ أخيراً ها هي تتمتم ببضع كلمات، وبشكل أدق ها هي تهمهم بأصوات غابرة أجدني غير قادر على فهم مغزاها. أصوات غريبة تتسرب إلي من جوف هذا الحجر الذي هو أمامي، أصوات تترنح وتصلصل كما لو كانت حشد أفاعٍ يطل علي برؤوسه من كهوف بدائيةٍ ويبدأ بالفحيح، أصوات خفيفة تطير كالمناديل، ولكنها لو سقطت على جبل لتهدم بكامله.. أصوات تحرث الجسد بمخالب طويلة ومعقوفة وتترك آثارها عليه مثل رماح المحاربين.

أصوات لحيوانات وكائنات منسوخة ووديان تتكسر فيها حجارة الرعد، أصوات تندفع فجأة وتنقطع، إذ تمتصها على آخرها آلاف الأفواه المفتوحة للكائن المكان. يا إلهي الحجر ينطق الحجر يهيئ لي وليمته الباذخة، من لحم الصواعق وعصارة النار.

أصوات وطوى المكان نفسه كالسحابة، وغادر مفسحاً المجال لعراء فسيح أن يظهر، لهياكل أشجار عملاقة، وهواء أحمر ينفجر فجأة من جهة بعيدة، وكائنين خرافيين يشتبكان في عناق لذيذ: أنا وهي. كانت النار تسيل من أطراف الأصابع كان الدم فوق الدم والأقدام على الهاوية وكنت أنادي عليها فيما هي ملتصقة بي، وأظافرها تخدد صدري.

كنت أصيح وأقول: تعالي منتظراً أن تجيء مرة ثانية. أسقط من سماء سابعة، وأنظف رأسي من رصاصة الحلم الطائشة، وأعود لأتأملها من جديد: العينان واسعتان تسيل منهما موسيقى سوداء، الأنف طويل مثل منقار صقر، الشفة السفلى في أقصى نضوجها وتوشك على السقوط. هذا الوجه بالضبط، بهذه الملامح التي ليست لامرأة على وجه الأرض سوى لها.. المرأة التي تقف الآن أمامي، والتي يخيّل إلي أنني عرفتها منذ زمن بعيد، ترى هل هو وجه حقيقي أم هو مجرد قناع، قناع لا غير.

إنني لا أعرف تماما.. إن كل ما أعرفه هو أن سطح العشبة أوسع كثيراً من السماء. المرأة تشبه قفصاً، من القفص تتسرب إلينا موسيقى ناعمة لعدد هائل من البلابل والعصافير، غير أن القفص فارغ تماماً من الطيور. المرأة تشبه حديقة. الحديقة تهب منها رائحة الخزامى والأقحوان، ولا أثر فيها للورد. المرأة تشبه شجرة مكتظة بالخضرة.

الشجرة دون أوراق وثمار. ودون ظل أيضاً. المرأة أي كلمة ملعونة تخرج من أفواه الشعراء؟ وإذا لم تكن كذلك فأين يمضي كل هذا الحشد الهائل من الطواويس؟ أين يمضي قصب الضوء، وتلك القباب المعجنة بالنار؟ وكيف تقضي وقتها المرأة التي أزعم أنني نحتها قبل خمسة آلاف عام؟ صدفةً التقيتها ثم شاهدتها بعد ذلك، ورأيت كيف كانت تسير مترنحةً تحت عبء جسدها الملعون الذي كان يبدو لكائن آخر لا علاقة له البتة بها، جسدها الذي كان يتصبب بالنار ويترك وراءه شريطاً طويلا من الحرائق؟