وداعا لـ"الغد"

لم تكن سنوات سهلة على الإطلاق؛ قبل عقدين كانت البدايات، في مستهلها كنت على موعد مع اختبار قاس للسير في بلاط "صاحبة الجلالة" والإعداد للشاشة الصغيرة. لم أكن وحيدا في ساحة هذا الاختبار بين الصحفيين الأردنيين؛ فقد سبق إليه الزميل سعد السيلاوي الذي جمع بين عمله في "الرأي" وقناة "إم. بي. سي". ثم تعزز الاختبار بدخول الزميل الشهيد طارق أيوب إلى "الجزيرة" وصحيفة "جوردان تايمز" في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي. وكذلك حلق الزميل ياسر أبوهلالة في فضاء الكتابة لـ"الرأي"، وإعداد التقارير الإخبارية مراسلا لـ"الجزيرة" آنذاك.اضافة اعلان
ليالي هاتيك السنوات ونهاراتها كانت قصيرة لمن يحلم أن يكون اليوم أكثر من أربع وعشرين ساعة؛ فالتعب مفتوح، والقضايا شائكة، وحجم الوجع الاقتصادي كبير وما يزال. وكان إتقان العمل بين صحافة تهتم بشؤون المال في "الرأي" والتجهيز لتقارير عن الأوضاع الاقتصادية لقناة "دبي"، يتطلب مني مثابرة وبحثا مديدا في كل تفاصيل الأرقام والمؤشرات؛ إذ لم أتوقف حينها عند السائد والنمطي، بل كان لكل رقم حكاية يجب أن تروى من دون عمليات تجميل تخضع لها عادة الأرقام والمؤشرات من جانب كثيرين، كي تقدم للرأي العام بوصفها مجرد أرقام، لا مضامين أو سياسات خلفها.
مرت السنوات ودخلت الألفية الجديدة بتعقيداتها وتحدياتها السياسية والأمنية والاقتصادية، وأشرقت شمس "الغد" في الأول من آب (أغسطس) 2004. وكم كانت تلك اللحظات قوية، فأسست في الذاكرة معنى عميقا لملامح المهنية المرتجاة. إذ سبقت التأسيس -وكنت مديرا لتحرير الصفحات الاقتصادية- حوارات وتباينات في الآراء وأصوات عالية، كلها معا نسجت شكل "الغد" ومضمونها مع نخبة من الصحفيين الأردنيين الذين هم بحق عنوان راسخ لنقاء المهنة وعظم رسالتها.
أفخر أن "المانشيت" الرئيس للصفحة الأولى في العدد الأول للصحيفة الصادرة للتو، كان لقصة أعددتها؛ وأذكر أنها تركزت على وثيقة قام بموجبها الأردن بتجميد أرصدة لأعضاء في "حزب الله" و"القاعدة". ويبدأ بعد ذلك مشوار كتابة المقال الاقتصادي، إضافة إلى إدارة تحرير صفحات "المال والاقتصاد". مشوار تواصلت فيه التغطيات والسبوقات الصحفية التي تناقلتها وكالات إعلام دولية عن "الغد"، ومنها فضيحة التسهيلات من دون ضمانات في بنك فيلادلفيا، وصفقة الذرة الفاسدة للباخرة الروسية "كريمشاكالير" التي رست في ميناء العقبة وشكلت كارثة بيئية في العقد الماضي، والأوضاع الإنسانية المأساوية للفلسطينيين اللاجئين في مخيم الوليد على الحدود السورية بعد احتلال العراق بأعوام، وغيرها من الموضوعات التي بقيت في أرشيف "الغد" وذاكرة من تفاعل معها.
كانت الصحافة وما تزال في تقديري مهنة تقض مضاجع المستبدين في جانبي السياسة والحريات من جهة، والفاسدين في جانب إدارة الشأن الاقتصادي من جهة ثانية. لذلك، فهي تتسم بأنها الأصعب بين باقي المهن؛ إذ تحتاج شروطا أخلاقية وقانونية ومهنية صارمة كي تتحقق وتترسخ، فيما تتكاثر الصعوبات أمام الصحفيين والكتاب في الشرق مقارنة بالغرب الذي قطع شوطا طويلا في الحريات والديمقراطية وحوكمة الشركات والمؤسسات.
بعد أكثر من ألف ومائتي مقال في "الغد" على امتداد اثني عشر عاما، لا يساورني ندم حيال المواقف والآراء التي ذهبت إليها. فحقوق العمال في مختلف القطاعات المحلية ظلت هاجسا استحوذ على حصة كبيرة من هذه المقالات. كما أن انتقاد الحكومات في سياساتها المالية والاقتصادية، ارتبط بمنهج تحليلي حاولت من خلاله الغوص في تفاصيل الأرقام وأثرها في حياة الأردنيين. فمسار المديونية، وتورم القطاع العام، وهدر أموال الخزينة، وهيكل تسعير الفوائد في البنوك، وقبل ذلك فساد بعض الشركات المساهمة العامة بما في ذلك الوقوف على ميزانياتها وبياناتها، والتشوهات التي يضمها سوق رأس المال، إضافة إلى كشف الفرص الضائعة في مجال الاستفادة من كنوز الأردن السياحية والاقتصادية، كل هذه الموضوعات مجتمعة وغيرها شكلت محور التفكير الرئيس لدي، ودفعتني دوما إلى الكتابة بجرأة، مع زملاء آخرين في "الغد"، على نحو يبتعد عن الشخصنة في النقد، ويقترب أكثر من الحقوق والقوانين وأنماط الإدارة النزيهة.
وبقدر ما أتاح العمل في "الجزيرة" فرصة للوصول إلى معلومات تفصيلية ومصادر قوية، بقدر ما تجاوزت المقالات حدود الوطن لتكشف عن قرب حجم الوجع الاقتصادي لأشقاء عرب في مصراتة وسبها وطرابلس والمنوفية والغربية والقاهرة ونواكشوط ومراكش وعدن وصنعاء وبيروت ومدن عربية أخرى، وعن فضاء الرفاهية في دول أوروبية وآسيوية، أملا في الوصول إلى تلك النماذج الناجحة يوما ما.
التفاعل مع قراء "الغد" كان مستمرا منذ اليوم الأول للكتابة، والعلاقة كانت طريقا باتجاهين؛ فقد استفدت كثيرا من ملاحظات قيمة شكلت أساسا لهذه العلاقة الجيدة. ويسجل لرؤساء تحرير "الغد" جميعا، على امتداد سنوات الصحيفة الزاخرة بالمهنية والموضوعية والجرأة، وفي مقدمتهم الصديقة الفاضلة جمانة غنيمات، تحملهم وصبرهم على "اندفاعي" أحيانا، وجرأتي في أحيان أخرى. وأذكر أحمد المولى على فضله وكرمه، فقد كان التقاضي الذي كانت تنتهي إليه الدعاوى في المحاكم بسبب النشر، يتوج بالبراءة دوما، استنادا إلى التزام الصحيفة والتزامي بشروط وصحة الكتابة الصحفية والنشر.
أكتب حروفي الأخيرة هذه في "الغد"، إيذانا بالرحيل من "بيتي الدافئ" لأسباب شخصية. وأتمنى لفريق الصحيفة الرائع السداد والتوفيق والألق، وهم يوقدون اليوم، بكل شجاعة وبهجة، الشمعة الثالثة عشرة للصحيفة الأجمل. كما أرسل المودة صادقة لكل قرائها أينما كانوا، واستميحهم العذر إن كنت أخطأت بحق أي واحد منهم دون قصد.
ستبقى "الغد" صحيفتي الأقرب إلى عقلي ووجداني وذاكرتي. وستبقى كتابة المقال نبضا يرافقني إلى فضاءات ومنصات التواصل الاجتماعي، في علاقة مع القراء الكرام لا انقطاع فيها.