الخلفية المصرية لمشهد المصالحة الفلسطينية


غاب الرعاة التقليديون لماراثون المصالحة الفلسطينية عن الصورة الاحتفالية التي تم تظهيرها قبل نحو ستة أسابيع في غزة، وبدأت خطوتها العملية للتو. كما فاز وفد منظمة التحرير المكلف بإنفاذ ما تم التوصل إليه من اتفاقيات وتفاهمات سابقة، بنيل درجة نجاح مرتفعة، لم يرق إلى مستواها كل الوسطاء العرب في أي من محطات المصالحة التي تنقلت من صنعاء ومكة، إلى القاهرة والدوحة، وتاهت بين التحفظات والاستدراكات والاتهامات المتبادلة.اضافة اعلان
فقد حضر الغرماء بإرادة طوعية هذه المرة، فيما غاب الشهود والقضاة، مللاً من تكرار مشهد الاحتفال بتحقيق المصالحة على الورق، وتعثرها على الأرض قبل أن يجف حبر البيانات المشتركة؛ الأمر الذي يبدو معه وكأن معجزة كبيرة قد حدثت فجأة، أو أن "ساعة رحمانية" هبطت على أفئدة أولياء الدم الذين تعللوا بكل الحجج المبدئية، والذرائع الشكلانية، للحفاظ على نار الانقسام مشتعلة، والإبقاء على الدجاجة التي كانت تبيض ذهباً في حجر الاحتلال وحده.
غير أنه في زمن لم تعد تقع فيه العجائب، وقلّما تحدث فيه المفاجآت السارّة، لا بد من التدقيق إذن بعين ثاقبة، لرؤية الخلفية العميقة لمشهد المصالحة المحفوف بمخاطر الارتكاس لدى التقدم فيما بعد نحو الخطوة التالية، لاسيما أن المتصالحين لا يعيشون في جزيرة معزولة، وبعض منهم يفتقر إلى الإرادة المستقلة، فيما البعض الآخر تعوزه النوايا الطيبة، بل وبدا مكرهاً على المضي في هذه الطريق الإجبارية.
وأحسب أن هذه الخلفية المتشكلة من عوامل عديدة ومتفاوتة الأهمية، كان العنصر الأشد حضوراً فيها هو المكون المصري، الذي غاب عن الصورة وحضر في ظلال المشهد التصالحي بقوة صامتة؛ حيث كان صدى صوته أشد بلاغة من الصوت نفسه، ليس فقط لأن مصر أكثر الدول تأثيراً في مجريات القضية الفلسطينية، وإنما لأن المتغيرات المتدافعة في أرض الكنانة، بددت حلم الإمارة في غزة إلى غير رجعة، وجعلت الوضع الذي لا يطاق في القطاع المحاصر غير قابل للاستمرار أكثر من سبع سنوات عجاف ونيف.
إذ لم يدر في خلد أشد المتفائلين بتحقيق المصالحة أن تتم هذه الخطوة، التي لم تعارضها سوى إسرائيل، على هذا النحو شبه التلقائي، لو أن الرئيس المصري المنتخب عبدالفتاح السيسي، لم يكن قد تمكن، قبلاً، مع عشرات الملايين في شوارع مصر وميادينها، من إنهاء حكم الإخوان المسلمين في قاهرة المعز، وأغلق مئات الأنفاق الحدودية مع غزة، ومعها خط الهاتف الوحيد مع المخابرات العامة، ثم فرض الحظر على "الجماعة" وفروعها، ووضع حركة حماس في القطاع المجاور أمام خيار واحد فقط، ألا وهو العودة إلى بيت الطاعة الفلسطيني، من غير تعللات بائسة، كانت معقودة على وهم عودة الرئيس المعزول محمد مرسي، واستمرار تدفق عوائد الأنفاق، وبالتالي إدامة تمويل الانقسام إلى ما لا نهاية.
هكذا، فقد كانت قوة الدفع المصرية تعمل بصمت وتؤدة في خلفية المشهد غير المرئي لصورة المصالحة الفلسطينية، التي بدت كأنها فعل خلاص ذاتي لأول وهلة، فيما كانت قوى الممانعة التي سبق لها أن قوضت جهود مصالحة سابقة، تتوارى إلى الخلف، وتفقد قدرتها على التعطيل، لأسباب قد لا يتسع المقام لحصرها؛ الأمر الذي بدت معه هذه المصالحة كأنها حاصل جمع عدد من المتغيرات العربية والإقليمية، بعد أن أخذت القاهرة في استرداد أول أنفاسها، وإملاء أول علامات حضورها بعد طول تثاؤب، وذلك عبر أقرب البوابات وأوسعها لإثبات الجدارة، أي عبر البوابة الفلسطينية.
إزاء ذلك، فإنه يمكن القول إن المصالحة الفلسطينية التي دخلت حيز التنفيذ الأولي بحذر شديد، كانت أولى هدايا السيسي للحركة الوطنية الفلسطينية التي همشها صعود الإسلام السياسي لثلاث سنوات ماضية، وكادت تفتك بها موجة أصولية مستبدة، لولا أن الثورة الشعبية المصرية الثانية بقيادة السيسي المؤكدة، كانت قد تمكنت بكفاءة من استرداد "الكنانة" من بين أيدي خاطفيها، واستعادة بوصلتها القومية بروح ناصرية جديدة. الأمر الذي يمكن معه اعتبار المصالحة الفلسطينية كثمرة أولية طيبة في سلة مصر الكبيرة، وبادرة إيجابية نادرة في هذه الآونة، يمكن البناء عليها.