بدائل التمويل التقليدي.. كيف ينبغي تنظيم الأسواق المالية؟

Untitled-1
Untitled-1

دبي- منذ أزمة الرهن العقاري عالية المخاطر العام 2008 التي انتشرت من مركزها في الولايات المتحدة إلى الأسواق المالية حول العالم، واجه الاقتصاديون سؤالا ملحا: كيف ينبغي تنظيم الأسواق المالية لضمان مستقبل اقتصادي أكثر استقرارا ويمكن التنبؤ به؟اضافة اعلان
وأدى هذا لطرح سؤال آخر: ما بدائل "التمويل التقليدي" الذي يتيح التركيز السريع للثروة في أيدي قلة مختارة؟ وفي محاولة لتقديم رد عن هذا السؤال قدم "دارومير رودنيك"، أستاذ العلوم الاجتماعية في جامعة "فيكتوريا"، كتابه "ما بعد الديون: التجربة الإسلامية في التمويل العالمي".
ويبدأ "رودنيك" كتابه بالتأكيد أن التمويل الإسلامي يختلف تماما عما هو معتاد الآن في الأسواق العالمية من تطبيق تجربة الديون والبنوك؛ حيث يبدأ من مبدأ حقوق الملكية، والذي يسمح للمرء فقط باستثمار ما يمتلكه بالفعل.
فبدلاً من البحث عن أرباح كبيرة من خلال استثمار الأموال المقترضة لشراء المنازل، على سبيل المثال، أو حصد أموال "بدون مقابل" من خلال الخدمات المصرفية، يبدأ التمويل الإسلامي من نقطة النمو البطيء ولكن الأكثر استدامة من خلال استثمار الأموال معا.
لذا فإنه في التمويل الإسلامي يتم تشجيع منطق العمل القائم على "مشاركة المخاطر" بدلاً من نقل المخاطر (مثل استخدام الضمانات لتحرير البنوك من المخاطر)، مما يضع البنوك كمستثمرين مشاركين في الشركات والمنازل ومشاريع أخرى يمولونها. وبالمثل، يتم اعتبار المودعين في البنوك كمشاركين في أرباح البنك، وكذلك خسائره.
ويقول "رودنيك" إن هذا النوع من التمويل يتوافق مع "روح" القرآن وهو "قائم على الشريعة" وليس مجرد "متوافق مع الشريعة الإسلامية". لقد توصلوا إلى استنتاج مفاده أن التمويل الذي يلتزم حقا بأحكام الشريعة لا يمكن تحقيقه إلا باستخدام الأسهم أو النسب في الاستثمار وليس الديون.
ويضرب الكاتب مثلا بما يصفه بـ"عالم الخبراء الماليين والدينيين" في ماليزيا والذين يتطلعون إلى عالم يقف فيه التمويل الإسلامي كبديل حقيقي للتمويل التقليدي، معتبرا أنهم يسعون لجعل عاصمة البلاد، كوالالمبور، بمثابة "نيويورك في العالم الإسلامي" أو مركز تدفقات رأس المال، وإنتاج المعرفة والابتكار في التمويل الإسلامي.
وبشكل عام، ظهر الحديث حول التمويل الإسلامي بوصفه بديلا بشكل مكثف في ماليزيا بعد الأزمة المالية العالمية العام 2008، في ظل طموح الأخيرة لتقديم نموذج رأسمالي ناجح لا يخضع للتصورات المُسبقة حول ضرورة تمويل النمو الاقتصادي بالديون.
والنمو الاستثنائي للتمويل الإسلامي في ماليزيا جاء في سياق بناء الدولة بعد الاستعمار؛ حيث تم النظر فيه إلى التمويل الإسلامي كاستراتيجية تنموية لتمكين غالبية المسلمين في البلاد من الوفاء بالتزاماتهم المالية مع مراعاة المبادئ الدينية.
ويرصد الكتاب كيف أجرى خبراء ماليون إسلاميون تجارب طموحة لخلق اقتصادات أكثر استقرارا وتضامنا، فضلا عن تأسيس مجتمع متماسك من خلال توزيع المخاطر وتقاسم الأرباح، وتعزيز مهارات تنظيم المشاريع، وتشجيع المزيد من العمل الاقتصادي التعاوني.
وبعيدا عن "عدالة" مفهوم المشاركة في الأرباح التي يقرها التمويل الإسلامي، فإن هناك جانبا آخر متعلقا بضرورة اهتمام أصحاب رؤوس الأموال بدراسة المشاريع بشكل مكثف، بما يجعل استثماراتهم حريصة للغاية بسبب احتمالية خسارتهم لرؤوس أموالهم خلافا للقروض التي تعود للمدينين في كل الحالات (باستثناء الإفلاس) مصحوبة بالفائدة المُتفق عليها.
وبهذا تتجنب الأسواق عاملين مهمين يسببان الأزمات المتوالية في الأسواق العالمية: المخاطرة المبالغ فيها من جانب المستثمرين بأموال البنوك نظرا لعلمهم بعدم مساءلتهم في حالة فشل "مغامراتهم"، وحصول البنوك والمدخرين على عائدات أو "ريع" بدون عمل بما يقوض منطق الاقتصاد الرئيس في بذل الجهد مقابل حصد الأموال.
فمنطق "الملكية" يختلف عن منطق "الدَّين"، ففي الحالة الأولى يسعى الشخص لضمان وتأمين أملاكه الشخصية، وفي الحالة الثانية يكتفي بالتأكد من أن من سيقرضه الأموال لديه القدرة على السداد، ولا شك أن فارق الاحتياطات الذي يتخذه صاحب رأس المال كبير.
فبدلاً من توفير بديل مالي مربح للاستثمار في الاقتصاد الحقيقي، فإن التمويل الإسلامي يكمل ويعزز نمو الاقتصاد الحقيقي، فهو يضمن ألا يؤدي رأس المال إلى ارتفاع أسعار الأصول بشكل مصطنع، بدلاً من ذلك، تم تصميمه للعمل في الاقتصاد الحقيقي، وفي المشاريع الحقيقية.
مع وجود الكثير من الأضرار الناجمة عن الهياكل المالية المعقدة للغاية والمحفوفة بالمخاطر والتي لا ترتبط بالأصول، فإنه ليس من المستغرب أن ينجذب المزيد والمزيد من المستثمرين إلى تركيز التمويل الإسلامي على الأصول الحقيقية وزيادة اليقين.
ويعتبر الكاتب أنه بمقدور التمويل الإسلامي الاستمرار في التوسع خلال الفترة المقبلة، مشيراً إلى النجاح اللافت الذي حققه طرح العديد من الدول للصكوك الإسلامية في ظل إدراك قطاعات في الأسواق المالية لفداحة الاستمرار في النظام التمويلي التقليدي.
وحرص الكاتب على نفي مجموعة من "الشبهات" التي تثار من قبل البعض، فالتمويل الإسلامي يتعلق بالأساس بتدفق الأموال في النظام الاقتصادي ويضع بعض القواعد المُقيدة للأنشطة الاقتصادية كمنع تمويل مشاريع الخمور، ولكن في الوقت ذاته يُمكنه إفادة الدول غير الإسلامية في مشاريع كثيرة.
ويشير "رودنيك" إلى أن التمويل الإسلامي يفيد كذلك في ناحية أخرى لا يلتفت إليها تتعلق بـ"تطور البشر" من خلال "اتساع نطاق الخبرات الاستثمارية"، فباضطرار أصحاب الثروات الكبيرة والصغيرة على حد سواء إلى المشاركة في المشاريع بدلا من "الادخار الآمن" تزداد قاعدة أصحاب القدرات التنظيمية بما يفيد الاقتصاد حتما.
ومع كل المزايا السابقة يعترف الكاتب بأن النمو الاقتصادي استنادا إلى التمويل الإسلامي "أبطأ" ولكنه أكثر استدامة، بما يتسق مع عدد من التوجهات "الجديدة/القديمة" التي تشمل التنمية المستدامة ومكافحة الظواهر الملوثة للبيئة، ولكنه يطرح تساؤلا منطقيا حول ما إذا كان النمو "مطلوبا لذاته" أم يجب السعي لضمان "نمو لا يُحدث أزمات".
ولذلك يعد التمويل الإسلامي الحل الناجع لمواجهة الأزمات المالية، بل يصل الكتاب إلى أن الكساد (وليس الركود المؤقت) والفقاعات الاقتصادية والتضخم السريع ليست من الظواهر التي تترافق مع التمويل الإسلامي الذي يعتبره بمثابة "حل استباقي" للكثير من مشاكل الاقتصاد العالمي المعاصر.
ومع ذلك، يشير الكاتب إلى صعوبة تحقيق التمويل الإسلامي لاختراق كبير على الصعيد العالمي، بسبب وجود شبكة واسعة من المصالح المستقرة التي تستفيد من بقاء الأوضاع الاقتصادية، ولا سيما فيما يتعلق ببقاء وضع التمويل التقليدي على حاله.-(وكالات)