التحرش وواقعه الحقيقي

تكتب إحدى النساء في صفحتها على "فيسبوك" عن قضية لها علاقة بقانون الأحوال الشخصية، وتفترض أن التعليقات ستأتي لإثراء الموضوع، سواء كانت مؤيدة أو معارضة لرأيها، لكن ما يحدث يأتي محبطاً؛ إذ إن نسبة كبيرة من التعليقات تأتي بعبارات غزل بصورتها، وأحياناً بعبارات "سمجة" لا يجوز التعاطي بها حتى في الشارع.اضافة اعلان
هذا مجرد مثال واحد للعقلية السائدة، والتي تسمح بتجاوز الخصوصية والتعدي على المرأة، ولكن ما يحدث بالفعل هو أكبر بكثير من هذا المثال، ويكاد يكون مرعباً، حتى لو أغضب هذا التعبير كثيرين ممن احتجوا على الحملة ضد التحرش التي أقيمت في الأردن مؤخرا!
في الفضاء الإلكتروني، تتعرض غالبية الفتيات والنساء لتحرشات مختلفة، بعضها في التعليقات، وأخرى بواسطة رسائل مباشرة، ولا يكون أمام أولئك النساء سوى شطب تلك التعليقات التي يأتي بعضها جارحاً وخالياً من الأخلاق والذوق، وأيضاً القيام بحظر المعلقين والمرسلين!
بفعلهم هذا، يعبر المتحرشون عن تقييم لأنفسهم يشعرهم بأن لهم حقاً في التحدث وإسماع رغباتهم الدفينة الخسيسة للمستهدفات من نشاطهم المريض، والأمر يزداد سوءاً إن كانت هناك معرفة بين الطرفين؛ حيث لا تعمد المرأة إلى حظر المتحرش، بسبب تلك المعرفة، وعدم توجيه رسالة قاطعة له بأن سلوكه مرفوض، ما يمنحه طمأنينة يستفيد منها لمعاودة فعله المشين مرة تلو المرة.
أما في الحياة الحقيقية، فالظاهرة كبيرة أيضا، ولا يكفي إنكارها لكي نتحرر من الشعور بالذنب لأننا لم نفعل شيئاً لمحاصرتها وإخفاء آثارها!
في بيئات العمل المختلفة؛ الحكومية والخاصة، هناك آلاف الحالات التي تحدث بصمت، ومنها ما أثّر كثيراً في المسار الوظيفي لنساء عديدات لم يرضخن للتحرشات التي كانت تطالبهن بأكثر من الصمت على المتحرش، نحو الدخول في علاقة معه، خصوصاً حين يكون المتحرش مسؤولاً عن الضحية وبيده تقييم أدائها وترفيعاتها وزياداتها السنوية.
بعضهن اخترن الاستقالة، وأخريات الإجازة بدون راتب لعل المسؤولين يتغيرون أو يذهبون إلى الجحيم، فيما فئة ثالثة لم تستطع المجازفة بدخلها، وظلت في عملها رغم الظلم الكبير والمهانة الواقعة عليها!
إنني أتحدث هنا عن نماذج أعرف بعضها شخصياً، وهن نساء يحاولن بناء مستقبلهن في العمل، لكن الثقافة الذكورية الاستعلائية التي يمارسها البعض تمنعهن من تحقيق أي شيء، وتسلمهن في كثير من الأحيان إلى ترك أحلامهن والانزواء بعيدا.
ولعلّ أسوأ ما في هذه القضية، أن الضحية نادراً ما تجد المساندة والدعم من العائلة؛ سواء الزوج، أو الأب والأم والأشقاء، فقضايا التحرش ما تزال المرأة هي المذمومة فيها بالدرجة الأولى، ولا ينظر إليها كضحية، إلا عند فئة صغيرة من المجتمع.
التحرش آفة خطيرة تفتك بالمرأة وحقوقها الإنسانية والوظيفية، ونعم، الحملة السابقة لم تضخم الأمور أبداً، بل لعلها لم تكشف الظاهرة بحجمها الحقيقي.