الملك وصيانة الفضاء العام

جرى في لقاء الملك مع الكتاب والإعلاميين، عشية عطلة العيد، حوار حول ما يشغل الفضاء العام اليوم ويغير فيه، وحدد الملك أهمها بثلاثة أشياء؛ التطرف والإرهاب، وصفقة القرن، وما يجري في شبكات التواصل.اضافة اعلان
والحال أن المواجهة مع التطرف والإرهاب خارج المجال الأمني ليست عمليات مباشرة ومحددة، ولا نملك سوى بناء منظومة للفضاء العام تنشئ اتجاهات اجتماعية واقتصادية للإصلاح والتنمية، ويكون انحسار التطرف والكراهية والإرهاب محصلة للفضاء العام الإيجابي، ولأغراض المساحة سأكتب اليوم محصلة للحوار الذي جرى في حضرة الملك في مجال الإصلاح الممكن لتجنب أن تكون البيئتان الدينية والثقافية ملاذين آمنين للتطرف، وسيكون مقال غد عن شبكات التواصل الاجتماعي وما يجري فيها.
يمكن أن تكون الأحداث والتجارب التي مررنا بها مؤخرا مناسبة مهمة للجدل والتفكير حول الإصلاح السياسي والاجتماعي، ونملك اليوم فرصة كبيرة لأن نضع الدين والسياسة في مواضعهما الصحيحة التي ترقى بالحياة وتثريها روحياً وثقافياً، بدلاً من إقحامهما في غير مجالاتهما وميادينهما. فالفضاء العام يعمل انطلاقاً من تقدير المصالح والاجتهاد فيها، وعلى أسس عقلانية قابلة للجدل والمعارضة والتأييد، وفي ذلك يكون الدين مرجعية مشتركة موثوقة ومحترمة، يشارك فيها جميع الناس والتيارات السياسية بمن في ذلك غير المتدينين. لا يمكن الحديث عن فضاء عام إيجابي يرفض التطرف إلا بقدر ما يجد جميع الناس على مختلف اتجاهاتهم أنهم قادرون على السلوك والحياة وفق رؤيتهم لما يحبون أن يكونوا عليه ومن دون مخالفة القانون بالطبع!
وفي ذلك، يمكن أن تسهم المؤسسات الدينية الرسمية والتعليمية والاجتماعية في صياغة نفسها ورسالتها على أساس التدين الإيجابي والفهم الصحيح للدين؛ أي أن تكون، ببساطة، إطارا للمتدينين وغيرهم ممن يعتقدون أن الدين يرقى بالحياة، وأن الناس يحتاجون إلى فهم صحيح وسليم للدين، سواء في العبادة والاعتقاد أو في العمل والحياة. هكذا أيضا يمكن أن يتحول التدين من ملاذ للمتطرفين ليكون موردا للدولة والمجتمعات والأفراد لإنشاء مظلة وقيم للعمل العام الحالي تماماً من المصالح والأهواء، ويمكن للجماعات الدينية أن توظف خبراتها وتجاربها في التأسيس لاجتهاد عصري وعلمي في فهم الدين وتعليمه، من دون أن يكون لذلك ضرر أو مصلحة في الشأن السياسي والفضاء العام. وبذلك نجعل الدين مورداً عاماً لجميع الناس، يرقى بحياتهم وفكرهم وسلوكهم، ويمنحهم ثراء فكرياً وروحياً؛ ودافعاً إضافياً للتنمية والروابط القانونية والفكرية بين الناس، وأساساً لعلاقات اجتماعية جديدة، ولا يكون أساساً للخلاف والتنافس السياسي.
نملك اليوم فرصة لأنسنة الشأن العام وإبعاده عن الوصاية، بما في ذلك المؤسسات الدينية الرسمية، ففي هذا التدين الذي نغرق به الفضاء العام ندخل في تنافس مع الجماعات الدينية لا يخدم الاعتدال بل يقدم مكاسب إضافية للمتطرفين، لا يفيد السلطة في شيء أن تقحم وزارة الأوقاف في الرقابة على المطبوعات والنشر، أو أن تلجأ إلى دائرة الإفتاء لمواجهة التهرب الضريبي والتلاعب بعدادات الماء والكهرباء، لكننا ننشئ خللا كبيرا في الرابطة القانونية وقيم المواطنة!
لقد كان من أهم دروس وخلاصات الربيع العربي أن التدين منتج حضاري اجتماعي يعكس مستوى الارتقاء وطبيعة التشكل التي وصلت إليها المجتمعات والأمم، وأنه (التدين) في غياب شروط موضوعية وفكرية، يتحول إلى أداة للتخلف والتفرقة ومزيد من الاستبداد والفشل.. كيف نجنب أنفسنا الوقوع في توظيف الدين وتفريق الناس والاتجاهات السياسية على أساسه، بدلاً من أن يكون دافعاً للارتقاء والوحدة والتماسك؟