بسمارك وجذور القوة الألمانية

أوتو فون بسمارك، مؤسس الإمبراطورية الألمانية  - (أرشيفية)
أوتو فون بسمارك، مؤسس الإمبراطورية الألمانية - (أرشيفية)

بيير بيزباك – (لوموند) 

ترجمة: مدني قصري
اضافة اعلان
لا شك أن المقارنة بين الاقتصادات الألمانية والاقتصادات الفرنسية، وبين الاتجاه الذي تريد المستشارة أنجيلا ميركل أن تعطيه للتكامل الأوروبي، تظل من المسائل الملحة التي تقع في قلب الأحداث الحالية. 
بل وقد شبه بعضهم المستشارة ميركل بالأمير المستشار أوتو فون بسمارك (1815-1898)، الذي لعب في القرن التاسع عشر دورا محوريا في توحيد ألمانيا، إذ أسهم في جعل ألمانيا القوة الصناعية الأولى في أوروبا عند فجر القرن العشرين، وهي المكانة التي ما تزال تحتلها حتى اليوم.
فعندما أصبح مستشارا لملك بروسيا وليام الأول، في العام 1862، ورث بسمارك ذلك الوضع الذي تركه في العام 1833 إنشاء الاتحاد الجمركي لولايات شمال ألمانيا ("الزولفيرين"). وقد أُسِّس هذا الاتحاد الذي كان منافسا لإمبراطورية النمسا فكرة التبادل التجاري الداخلي الحر والتعرفة الجمركية الموحدة على الحدود، واستخدام عملة مشتركة، مع الاحتفاظ بتداول مختلف العملات المحلية. كما سعى المشروع البسماركي إلى العمل على استكمال دمج هذه الدول في قلب ألمانيا الخاضعة آنذاك لهيمنة بروسيا.
ومن أجل تحقيق تلك الأهداف، شجّع بسمارك التصنيع في منطقة "الرور" من خلال الاعتماد على مقاولين، من أمثال ألفريد كروب (الشركة المصنعة لمعدات السكك الحديدية، والمدافع)، مع تقديم ضمانات للزعامة البروسية، عن طريق شن عمليات عسكرية عديدة، ومنها الحرب ضد الدنمرك في العام 1864، وسحق النمسا في العام 1866، وتحقيق الانتصار على فرنسا في العام 1871، الذي تلاه ضم منطقة الألزاس واللورين الفرنسيتين.
وكان هذا النجاح الأخير هو الذي أتاح له أن يجعل من ملك بروسيا، إمبراطور ألمانيا ويليام الأول، ملكا على كيان سياسي جديد، هو الرايخ الثاني. وعندئذ، طبق بسمارك سياسة اقتصادية قائمة على تسريع وتيرة التصنيع القائم على مجموعات كبرى رائدة في مجال الابتكار والتجديد (لا سيما في مجال صناعة الحديد والصلب الحديثة، وصناعة الأسلحة، وصناعة المواد الكيميائية وغيرها)، التي تموّلها مصارف قوية، مستفيدة في ذلك من الأجور المنخفضة، وموجَّهة نحو التصدير.
وبالتوازي مع كل ذلك، عمل بسمارك جاهدا على تحسين الإنتاجية الزراعية (استصلاح الأراضي الزراعية، واستخدام الأسمدة الكيماوية)، كما أجرى التصويت على التعريفات الجمركية الحِمائية، وسنّ العديد من القوانين الاجتماعية لمحاربة نفوذ الاشتراكيين (الذين أنشأوا الحزب الاشتراكي الديمقراطي في العام 1875)، ومن هذه القوانين على وجه الخصوص: التأمينات الصحية (1883)، والتأمينات الخاصة بحوادث العمال (1884)، والتأمينات المتعلقة بالشيخوخة (1889).
وقد أنجز بسمارك أيضا الوحدة النقدية للإمبراطورية، بإنشائه عملة المارك التي حلت في أول كانون الثاني (يناير) من العام 1876 محل كافة القطع النقدية القديمة المتداولة آنذاك (ثاليرس، فلورينز، غروشينز)، والتي استفادت علاوة على ذلك من تغطية معدن الذهب الذي وفرته تعويضات الحرب، والمقدرة بمبلغ 5 مليارات فرنك، التي كانت دينا على فرنسا بعد هزيمة العام 1871.
واليوم، يقوم "النموذج الألماني" على الاعتماد على قطاعات التصدير، وعلى خفض تكلفة اليد العاملة، وعلى جعل عملة اليورو عملة قوية، على الصورة التي كان عليها المارك الألماني القديم، وعلى التنفيذ الصارم لأحكام المعاهدات الأوروبية (إدانة العجوزات، ومنع البنك المركزي من تمويل العجوزات القائمة)، وهو ما يبدو مجرد تطبيق صارم لقواعد المذهب الاقتصادي.
لكن، يمكننا أن نتساءل أيضا عما إذا لم تكن ألمانيا القرن الحادي والعشرين تنوي أن تلعب في أوروبا دور بروسيا في القرن التاسع عشر (ناقص الجانب العسكري)، والاستفادة من تفوّقها الصناعي، لكي تفرض نفسها على الدول المجاورة المزودة بعملة فائقة القيمة، والتي تتيح لها شراء البضائع الألمانية، مع إبطاء وكبح عملية التصنيع فيها.

*نشر هذا المقال تحت عنوان: Bismarck (1815-1898) et les origines de la puissance allemande